نجيب الخنيزي
طبيعة اللعبة الديمقراطية في أمريكا يعتريها الكثير من المآخذ والسلبيات. ونذكر هنا ما يعرف بقانون الناخبين الكبار (المجمع الانتخابي) الذي يضم بضع مئات فقط على صعيد الولايات الأمريكية الخمسين، مما يصادر الحق الطبيعي في اختيار الأمة لمرشحيها عبر الأصوات المباشرة لمجموع الناخبين. بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات لا ينتظر تغيرا أو تبدلا في السياسات والمواقف والممارسات الأمريكية إزاء القضايا الرئيسية خصوصاً ما يتعلق فيها بالسياسة الخارجية، علما بأن العرب يعولون دائما على شخصية وانتماء الرئيس الأمريكي الجديد، وفي هذا الصدد من المهم الإشارة إلى أن جميع المرشحين في السباق الطويل (الماراثون) للفوز بالرئاسة لم يخفوا أبداً تعاطفهم وتأييدهم اللامحدود لمواقف وسياسة إسرائيل العدوانية وذلك لأسباب وعوامل مختلفة، يأتي في مقدمتها اللوبي الصهيوني الذي يشكل قوة ضغط لا يستهان بها بفعل إمكاناته المالية والإعلامية وأصواته الانتخابية (6 ملايين يهودي أمريكي) وهم بتعدادهم يشكلون أكبر تجمع لليهود في العالم بما في ذلك دولة إسرائيل، مع أن أصوات اليهود الانتخابية لم تكن دائما حاسمة في تقرير وحسم فوز الرئيس بدليل أن الرئيسين الجمهوريين السابقين ريجان وبوش الأب فازا في انتخابات الرئاسة على الرغم من تصويت غالبية اليهود للمرشح الديمقراطي.
في الواقع الرئيس الأمريكي تنتخبه نسبة لا تتجاوز 20%من الأصوات التي يحق لها المشاركة في الانتخابات، واللافت هو بروز دور الأقليات الاثنية (تشكل قرابة 35% من الشعب الأمريكي) التي باتت تشارك على نحو متزايد في الاقتراع وهو ما يعكس الدور المتنامي لها في أوجه الحياة المختلفة في الولايات المتحدة.
يبدو أن استمرار عزوف غالبية الشعب الأمريكي عن ممارسة حقهم الانتخابي يعود إلى أسباب عدة أهمها انعدام الفوارق في القضايا الرئيسية بين الحزبين الكبيرين اللذين احتكرا باستمرار ساحة العمل السياسي في الولايات المتحدة، وهي مفارقة غريبة في بلد يعتبر من أقدم وأعرق الديمقراطيات في العالم، كما يعزى عزوف الناخب الأمريكي والناخب الغربي عموما عن المشاركة في العملية السياسية والإدلاء بأصواتهم في الانتخابات يعود إلى عدم الثقة بكافة الأحزاب والجماعات السياسية المهيمنة، بسبب انتشار ورسوخ الفساد السياسي والمالي والأخلاقي، ويكفي أن نذكر هنا فضائح ووترجيت، وإيران - كونترا جيث، ومونيكا جيث، وهل ننسى الانقلاب الذي مارسته هيلاري كلينتون الذي يعبر عن انتهازية ووصولية فيما يتعلق بمواقفها من المسألة الفلسطينية، من أجل ضمان أصوات اليهود وفوزها بعضوية الكونجرس عن ولاية نيويورك سابقا، و في انتخابات الرئاسة الأمريكية حالياً.
غير أن هذه الفضائح ودور مراكز القوى والنفوذ والمال والدعاية، والإعلام (تصل نفقات الانتخابات الأمريكية إلى حوالي 3 مليارات) لم تؤد إلى فرز خط ثالث قوي ومؤثر بعيدا عن هيمنة الحزبين الجمهوري والديمقراطي المهيمنين على الساحة السياسية في الولايات المتحدة. وفي الحالات القليلة التي دخل فيها طرف ثالث كان بصفته الشخصية (مستقلاً) أو يمثل قوة هامشية مثل داعية الحقوق المدنية جاكسون (أسود) والبليونير روس والمدافع عن حقوق المستهلك الأمريكي رالف نادر وقبلهم أنجيلا ديفز مرشحة الحزب الشيوعي الأمريكي. غير أن المرشح الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية التمهيدية بيرني ساندرز وصف بـ»الاشتراكي» في بلد رأسمالي، حيث تأثر ساندرز كثيرا بسياسات الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية في أوروبا. ودعا في حملته إلى إدانة تصريحات الجمهوري دونالد ترمب المعادية للمسلمين. وألحق ساندرز هزيمة مدوية بهيلاري كلينتون في ولاية نيوهامشير.
لقد كتب المفكر الأمريكي نيشان ميلر منذ زمن طويل «كان الفساد مادة تشحيم دواليب الآلة الإدارية للدولة وقد لعب الكسب غير المشروع والفساد دورا حيويا في تطور المجتمع الأمريكي الحديث وفي خلق الآلية المعقدة المتداخلة من الحكومة ورجال الأعمال، الآلية التي تقرر مجرى شؤوننا في الوقت الحاضر». وفي الواقع فإن الولايات المتحدة تاريخيا ومنذ استقلالها عن الإمبراطورية البريطانية في نهاية القرن الثامن عشر وعبر نخبها وقياداتها المتعاقبة، كانت تكن احتقارا للديمقراطية وحقوق الإنسان (التي أساسها وجوهرها الإنسان والبشر) فبطل الاستقلال الأمريكي جورج واشنطن كتب في عام 1783م «إن التوسع التدريجي لمستوطناتنا سيجعل المتوحشين (يقصد السكان الأصليين من الهنود الحمر) يتراجعون تدريجيا وكذلك الذئاب فكلاهما طرائد للصيد مع أنهم مختلفون شكلاً».
أما الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون صانع إعلان الاستقلال الأمريكي فقد كتب «إن القبائل المختلفة سوف تتردى في البؤس والبربرية وتتناقص عددا بسبب الحرب والفاقة وسنكون مضطرين لسوقهم إلى الجبال الصخرية مع وحوش الغابات» وقد تجسدت هذه السياسة في إبادة سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر والاستعباد للسود الذين جلبوا من القارة السوداء (إفريقيا). وهذه السياسة أدت إلى غزو فلوريدا (الولاية التي تعتبر بمثابة بيضة القبان في المعركة الانتخابية) لإزالة خطر «القطعان المختلطة من الزنوج والهنود الذين لا قانون لهم» وفقا لما كتبه جون آدمز (1767-1848) الرئيس السادس للولايات المتحدة. إذا كانت هذه المواقف الهمجية والفوقية والاستعلائية إزاء السكان الأصليين والسود فماذا عن بريطانيا الدولة المستعمرة السابقة التي يتحدر منها غالبية الأمريكيين البيض لقد كتب الرئيس الأمريكي جون آدمز عن بريطانيا ما يلي «ولأنها تعلم من المهد أنها تحتقرنا وتهيننا وتسيء لنا فإنها لن تصبح صديقة لنا حتى نصير سادتها» ومن أجل ذلك تم احتلال وضم تكساس التي تشكل ثلث مساحة المكسيك من أجل ضمان احتكار نبتة القطن التي كانت أهم سلعة إستراتيجية في ذلك الوقت لتأكيد وتأمين التفوق والسيطرة العالمية. للحديث صلة.