4 - أرجوحة الدلالات:
«كان أحسنَ الأزمان، وكان أسوأ الأزمان، كان عصرَ الحكمة، وكان عصرَ الحماقة، كان عهدَ الإيمان، وكان عهدَ الجحود، كان زمنَ النور، وكان زمنَ الظلمة، كان ربيعَ الأمل، وكان شتاءَ القنوط، كان أمامنا كلُّ شيء، ولم يكن أمامنا شيء»!
قصة مدينتين - تشارلز ديكنز
تُقدّم الرواية لقارئها شاهداً فنياً حيّاً على إمكان تجاور التناقضات، وقابلية التعايش المشترك بينها، بل تُظهِر أحياناً أن السبيل الوحيد لبقاء المعنى إنما يتمثّل في استمرار المحافظة على المعنى المضادّ له؛ وكأن الصراع الجذري المفترَض بين النقائض ليس سوى واجهة استقطاب لا أكثر، وأن القانون الحقيقي الذي يحكم العلاقة بينها لا يخضع لمنطق: النصر والهزيمة، بل لمنطق: التبادل المستمر للأدوار؛ ضمن لعبة أبدية يمكن أن تُسمّى: لعبة التوازن، ولولا لعبة التوازن لما نشأ الصراع في الرواية، ولما تعقّدتْ أحداثها، واكتسبتْ كلّ تلك الجاذبية عند القرّاء الذين لا يزالون يحبسون أنفاسهم عند كلّ منعطف من منعطفات تلك اللعبة المتوازنة.
وخذ مثلاً رواية: مائة عام من العزلة لماركيز، فستجد أن عوامل الخراب والذبول كانت تنخر في صلب عائلة الأب: خوسيه أركاديو؛ متجاورةً مع مظاهر التوسع والنفوذ والسيطرة التي تمثّلت أوضح ما تكون في تضخّم حجم العائلة وتناسل أحفادها من جهة، والانتصارات المتوالية للابن الثائر: الكولونيل أوريليانو من جهة أخرى، والغريب أن هذه المظاهر الخادعة التي توحي بالتوسع والسيطرة هي على وجه التحديد أهمّ العوامل التي أدّت إلى تفكّك العائلة وتشرذم أفرادها، وخراب قرية: موكوندو في النهاية.
أمّا قصة: العجوز والبحر لأرنست همنغواي فهي من أوضح الأمثلة على التفاعل الخلاّق بين النصر والهزيمة داخل النفس الإنسانية، وكأنما تعكس الأسلوبَ المفضّل للحياة في التعامل مع الإنسان، فهي تعطيه شيئاً بيد؛ لتنتزع منه شيئاً آخر باليد الأخرى، لقد عاد الشيخ إلى قريته بعد رحلة الصيد المضنية التي أراد أن يُثبت من خلالها قدرته، وبقايا فتوّته.. عاد مظفّراً بنصف حلم: ببقايا صيده الثمين الذي ظلّت أسماك القرش تنهشه طوال الطريق، وكأن رحلة الصيد هنا تشفّ عن رحلة الحياة بأكملها: قائمة مبعثرة من الخسائر والأرباح المتداخلة فيما بينها إلى حدّ الامتزاج .
وفي انجذاب تعاقبي بين المتضادات تترنّح الدلالات؛ تماماً كرقّاص الساعة في مساره الدوريّ الأبدي، والشعر حين يُلامس هذه الدلالات المترنِّحة بين الأضداد يبلغ الذروة في العمق والتصوير؛ إذْ يصبح المعنى - نتيجة مفارقات الواقع - أدلَّ على ضده منه على نفسه، وللشاعر السعودي حاتم الزهراني قصيدة تُشاكس هذا الهاجس، وعنوانها: استعارات لفوات القطار، وفيها يغوص في الدلالات الأعمق لمفردة: البذاءة؛ متجاوزاً المعاني الظاهرية للأشياء، والقالب المسرحي والتمثيلي الذي طالما سُجِنت فيه، يقول:
«البذاءةُ: أن تتخيّر ما سوف يمشي على السطرِ.. أو أن تُسرِّح شَعرَ الحقيقةِ قبل الحوارْ... البذاءةُ: ألاَّ تقول الأذى للأذى.. أن تُربِّيَ عينيكَ أن تتغافلَ عمّا ترى من قذى.. أن تُؤوِّل ضعفكَ بالحكمة المنتقاةِ.. وأن تمحوَ الليلَ في كلمات النهارْ.. البذاءةُ: أن تتأدَّبَ جداً فتستعبدَ الكلماتِ ذواتِ اللهيبِ المدبَّبِ.. خوفَ الظلام المرتَّبِ.. خوفَ الكلام المعلَّبِ.. أو قلْ: لأنّ كؤوسَ الملامِ تُصيب الأنا بالدُّوارْ.. البذاءةُ: - دعني أكونُ لطيفاً - هي الشكُّ في نُبلِ هذي القصيدةِ حتى تُبلِّلَ فُستانها.. في دمٍ مُهْدَرٍ بالجِوارْ.. والبذاءة: - بيني وبينكِ - ألاّ تجرّبني تمتماتُ القصيدةِ عند التقاء البِحارْ».
5 - حِيَل صغيرة:
«النساء يُفكّرن بالمعنى الخفي للأسئلة أكثر من تفكيرهنّ في الأسئلة ذاتها»!
الحب في زمن الكوليرا - ماركيز
يؤكد الروائي المعروف ماريو بارغاس يوسا في رسائله أن الرواية ليست سوى: كذبة تحاول التظاهر بأنها حقيقة، ثم ينتقل إلى تعميم هذه الرؤية على فن الأدب بمجمله الذي لا يعدو في نظره أن يكون: خدعة كبيرة، وأن الأدب العظيم وحده هو القادر على إخفاء هذه الخدعة، بينما يفشل الأدب الرديء في إخفائها.
كيف تُخفي الرواية هذه الخدعة؟.. بحِيَل كثيرة، ومنها: إدماج القارئ في أجواء القصّ؛ عبر التفاصيل المتماسكة والأخّاذة، والرواية هي: فنّ التفاصيل بامتياز، وقد أشار يوسا إلى عدد من الحِيَل السردية الأخرى، ومنها: حيلة العلبة الصينية، أو الدمية الروسية (ماتريوشكا)؛ حيث تتناسل القصص الصغيرة داخل القصة الكبيرة، ومن أبسط أمثلتها في أدبنا العربي: ألف ليلة وليلة، والشاعران: أمل دنقل، وسعدي يوسف يُجيدان استعمال هذه التقنية في قصائدهما، ويكفي أن أقول هنا: إن القصيدة الشهيرة لدنقل: لا تُصالح؛ ليست سوى لوحة شعرية من لوحات ملحمته: أقوال جديدة عن حرب البسوس، ولا يمكن فهم تلك القصيدة فهماً صحيحاً، وإدراك أبعادها الكلية إلاّ بتتبع الكيفية التي تناسلت من خلالها عن الملحمة، واستيعاب الوظيفة القصصية التي أدّتها ضمن إطارها الملحمي الأوسع.
ومن الحِيَل السردية التي ذكرها يوسا كذلك: المعلومة المخبّأة أو بلاغة الصمت، وهي حيلة كثيراً ما يلجأ إليها الروائيان: روب غريبه، وأرنست همنغواي في رواياتهما؛ إذْ يحذف كل منهما الواقعة الرئيسة التي تفسِّر أحداث القصة؛ مكتفياً بإحداث فجوات دلالية مقصودة في البناء القصصي؛ لإثارة فضول الأسئلة عند القارئ، ومن خلال اكتشاف هذه المعلومة المخبّأة - أو حتى اختراعها - تتضح منطقية البناء الدرامي للحكاية، وقد لجأ الشاعر المعاصر إلى ما يُشبه هذه التقنية الروائية من خلال ما سُمِّي بالأبيات الصامتة المكوّنة من نقاط حذف متوالية؛ تُشير إلى الفجوات البنائية المتروكة عمداً في القصيدة؛ لتحريض خيال القارئ، وإذكاء توقعاته، وللدكتور عبد الله الرشيد بحث مميّز عن هذه الظاهرة المستجِدّة في الشعر الحديث.
6 - نثر الشاعر.. والفخّ الشكلي:
«عندما استيقظَ.. كان الديناصور ما يزال هناك»!
الديناصور - مونتيروسو
أخيراً لكي يرتقي الشاعر بنثره هذه المرة لا بد أن يقرأ الرواية، ومن الظواهر اللافتة حقاً أن كثيراً من الشعراء المجيدين يضعف أسلوبهم بقدْر كبير حين يكتبون النثر، وليس مردّ الضعف عندهم إلى خلل في البناء والتركيب، بل هو ضعف إيحاء وعمق، وكأنما سُلِبوا قدرتهم الساحرة على استمطار سحائب اللغة بمجرد مغادرتهم منطقة الإيقاع الموزون!
ودعك من الوصايا المدرسية المكررة لتجويد الأسلوب: قراءة المقامات، ونثر الدرّ للآبي، وكتب الجاحظ والتوحيدي وأبي العلاء، فهذه مصادر مهمة بلا ريب؛ ولكنها غير كافية، ما يرتقي بأسلوب الشاعر المعاصر حقاً حين يكتب النثر هو قراءة الرواية العالمية على وجه الخصوص، ثم العربية، فهي ترُود وعيه وذائقته نحو عوالم من الأحاسيس الإنسانية الرفيعة، والأفكار الكونية العميقة لن يجدها في غير الرواية.
قلتُ وما أزال أقول: إن أسلوب الرافعي كان شديدَ الوطأة على الشعراء والأدباء التراثيين، فقد أوحى لهم بأن بإمكانهم أن يكتبوا نثراً مجلّياً دون أن يكون لديهم اطلاع واسع على الآداب العالمية والنظريات الفلسفية، وأن كل ما عليهم فعله هو ما كان يسمّيه: الاغتسال اللغوي؛ أي الغوص أكثر في كتب التراث؛ لصقل الأسلوب بديباجة الأقدمين، تمهيداً للكتابة؛ ولكنّ الرافعي نفسه يقدم لنا أنموذجاً كاشفاً لمدى نجاعة هذه الطريقة في الكتابة الأدبية الحديثة، فكتب الرافعي تُعطيك الكثير من الثرثرة اللغوية المتأنِّقة؛ لكنْ مع فقر شديد في الأفكار العميقة، والخطرات الملهِمة، وعد إلى كُتُبه لترى كيف يبدأ خاطرته بفكرة عامة ثم لا يزال يمطّها ويدور حول ألفاظها: تشقيقاً وتفريعاً، ولعباً مسرِفاً بالمترادفات، وولَعاً مستمراً بالتقديم والتأخير المتبادَلين بين المفردات، ثم لا يزال هذا دأبه؛ حتى يستنزف آخر قطرة من ماء اللغة، ومن صبر القارئ أيضاً.. نعم، قد يخرج القارئ في النهاية بفكرة أو بفكرتين مثيرتين؛ لكنهما لا تستحقان كل هذا الجهد المبذول في قراءة كلامه الإنشائي المزوّق والممتد.
ولا أرى أسلوب الرافعي في العصر الحديث إلاّ كأسلوب القاضي الفاضل في القرن السادس الهجري، ولا أرى فتنة بعض قُرّائنا بأسلوبه إلاّ كفتنة معاصري القاضي الفاضل به، فكلاهما متغزِّل عريق باللغة؛ مع هشاشة ظاهرة في البُعد الإنساني والتأمّل الفلسفي، ولك أن تعود إلى كتب الرافعي الثلاثة التي يعدّها المعجبون به قمة إبداعه النثري: رسائل الأحزان، وحديث القمر، والسحاب الأحمر؛ لتقف بنفسك على هذا التغزّل الإنشائي الفارغ باللغة: صُوَراً وكلمات، وحين تنتهي من قراءة أحد هذه المؤلَّفات قد تسأل نفسك جاهداً: ما الجديد الذي أضافه هذا الكتاب إلى نظرتي للحياة، أو للذات، أو للآخرين؟ وما الذي قدّمه إليّ غير الإدهاش الفني المؤقَّت من خلال التلاعب المستمر بالكلمات والصوَر؟.. والسؤال الأهمّ: هل كان هذا اللعب اللفظي المستمر متعمّداً منه لتجنّب الأسئلة الوجودية الكبرى التي تواجه الإنسان حين يتحدث عن المرأة: جمالاً، وغموضاً، ومأزِقاً؟.
- د. سامي العجلان