من المعلوم أن العلوم الطبيعية تتضارع وتتقارب في تطوراتها العلمية العالمية في أكثر البلدان، ولكننا نرى بلدانا تبدع في إنتاج نظريات علمية وتبدع في تطبيقاتها ولا تني العلوم فيها تتطور تسارعيا كما ونوعاً في حين نرى بلادا أخرى تظل العلوم الطبيعية فيها متوقفة أو ضعيفة جدا، وليس ثمة تطور تراكمي أو نوعي يمكن أن يمثل إضافة حقيقية للعلم على المستوى العالمي
فما السبب في ظل التماثل في المعطى الذي تدرس به تلك العلوم؟
من دون ريب أن لذلك أسبابا متعددة ولكننا سنركز على ما يلي:
السبب الأول: ضعف التعليم العالي والبحث العلمي كرؤية وإستراتجية، والتدخل في الجامعات وخصوصا في الجوانب الإدارية مما أفقد الجامعات في ما كان يصنف في العالم الثالث سابقا استقلاليتها بل بات من المعروف في بلاد كثيرة متأخرة أن الجامعات بما في ذلك البحث العلمي يدار بعقلية الأمن أو بأدوات الإيديولوجيا أكثر من عقلية العلم.
السبب الثاني : عدم التفريق بين الإيديولوجيا وبين العلم واختلاطهما ببعضهما يؤدي إلى تعطيل العلم تعطيلا تاماً ويصيب العقول بالشلل المعرفي وعدم القدرة على الإبداع. وفي هذا الخصوص تختلط المصطلحات اختلاطا إيديولوجيا فلا يمكن تمييز العالم من المؤدلج ...
السبب الثالث : إهمال العلوم الإنسانية وعدم الاهتمام بها، وهذه كارثة تنتج عن العناية المفرطة بالعلوم الطبيعية والعمل على التحديث السريع لها، وتفضيل أن يسلم القطاع البحثي والجامعي للمختصين في التخصصات العلمية، لأنهم أبعد عن تعقيدات ومناقشات العلوم الإنسانية وإشكالات ارتباطتها بالفكر والفلسفة والإيديولوجيا فهم مريحون جدا من هذا الجانب، ولكنهم للأسف تقنيون أكثر من اللازم مما يسبب إخفاق خططهم وتركيزهم على محاربة التخصصات النظرية أكثر من الاهتمام بالإنتاج العلمي ... ثم إن الرؤية الاستراتجية التي تركز على إنتاج إنسان آلي هي من أكثر الرؤى خطراً لأنها تولد فراغاً إنسانيا يؤدي إلى فضوى وسقوط مريع في النهاية، ويجري التركيز على إنتاج هذا الإنسان حيث يكون إنتاج الإنسان الطبيعي ممنوعاً..
السبب الرابع: عدم وضوح أهداف السياسة التعليمية بالنسبة للعلوم الإنسانية، فعلى سبيل المثال حينما تؤسس جامعة مهمتها الحفاظ على العلوم التراثية ثم نجدها تحاول أن تهتم بتحديث العلوم ليس بسبب الضغط التحديثي وإن كان ذلك الضغط موجود بالقعل، ولكن تلك الجامعات قد استنقدت معظم أغراضها ومعظم أهدافها وبدأت تبحث عن مخرج تحديثي حتى لا تختنق وتموت، ولكن للأسف لأن الإعداد للعلوم الحديثة شبه مفقود في ما قبل التعليم العالي فهي لا تنتج علوما حديثة متميزة ولا تنتج أساسا علوما قديمة فما كانت مهمتها سوى الحفظ للتراث فقط.
وهنا تنشأ أزمة علمية عظيمة لأن العلوم مترابطة ولأن أبستمولوجيا العلم تربط بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية في معادلة واحدة تؤدي إلى نهضتهما معا تبعا لرؤية متجاوزة تقوم على فهم الحاضر والإعداد للمستقبل..وتستمر الأزمة الخانقة لتؤدي إلى توقف علمي وإلى تحرك إيديولوجي يعوض ذلك التوقف أو إلى تضعضع العلوم عموما والعودة إلى منطقة الجهل المعتمة.
وكل هذا يؤثر كثيرا على مستوى العقلية ويا للأسف ليس لدينا مركز أبحاث عريق يمكن أن يقال: إنه أضاف للإنسانية في مختلف المجالات العلمية، وجامعتنا بدأت من خلال تشكيلاتها الإدارية تهبط إلى مستوى مدارس بمسمى جامعات، حتى المنافسات عل تصدر قائمة الجامعات هي وهمية في الغالب وأشبه بإثبات التفوق من خلال الغش في ملء استبانات التقويم العالمية.. وبدأ حتى الطلاب يفقدون الهوية الجامعية التي هي أهم شيء في التكوين الفكري والعلمي للطالب وبدأت الجامعات كأنها حبات الإسبرين لا فرق بينها بل تعدى ذلك إلى الطلاب المبتعثين وكما قال أحد الأصدقاء من الطلاب المبتعثين تجد أن أغلب رسائل مبتعثينا متشابهة جدا ومنها على سبيل المثال : Teaching … in Saudi Arabia أو Investigation of … in Dialect في اللسانيات ، بل إن اللسانيات مفقودة كليا في الجامعات كما توصلت إلى ذلك في بحث علمي رفض قبل عامين وقد تقدمت به إلى ندوة في جامعة ما، ثم تقدمت به إلى مركز علمي في مجلة تناقش التخطيط اللغوي فرفض متعللين بأنه ليس من قضايا التخطيط اللغوي، ولقد كان تعليلا عجيبا تجرعته كغصة لأن البحث في صلب التخطيط اللغوي بيد أنه يقول الحقيقة المرة بصراحة وعلمية لا يمكن احتمالها حتى في مركز علمي !
ولقد لفت نظري قبل أيام كيف أن جامعة من الجامعات تطرح موضوعات حديثة كالحجاج في أقسام الدراسات الأدبية مثلاً دون أن تدرس الفلسفة والمنطق قبل ذلك بل هي تصرح بمعاداة الفلسفة والمنطق معاداة إيديولوجية ... في حين نرى المنطق يُدرس بعد ممانعة طويلة في جامعة أخرى ولكن في قسم ا لعقيدة في الدراسات العليا للاستعانة به في فهم كتب القدماء لا أقل ولا أكثر .. إن الطالب الجامعي وطالب الدراسات العليا لا ينتجان في النهاية علماً بل هما يكرران ويحفظان .. ويتخرجان ليبدآ من الصفر المنهجي والعلمي والبحثي وأنى لهما بعد ذلك أن يتميزا ! في ظل مسلمة تقول: إن العلوم نضجت واحترقت أو نضج بعضها وبعضها الآخر احترق في حين أن العلوم كلها لم تنضج ولم تحترق ولن تنضج ولن تحترق ..
وحينما نأتي للطالب في ذلك التحديث السطحي بمصطلحات حديثة ليستغل عليها يجب أن ندرك أنها في الحقيقة جزء من جهاز مفاهيمي وفلسفي وفكري ضخم إذا لم يفهم الطالب ذلك الجهاز فلن يفهم المصطلح فكفى عبثا بتجديد هو تبديد وتسطيح وأشكال لا عمق لها ولا قيمة لها..
فعن أي تحديث للعلوم نتحدث ؟
إن ما ينبغي حقا هو إعادة النظر في تعليمنا وإعادة الأسئلة الكبرى لنتقدم لا لنتأخر، وإعادة النظر في التعليم وفي الجامعات وفي الدراسات العليا وإبعاد كثيرمن الغثاء الإيديولوجي والغثاء الإداري عن طريق النور والمعرفة.
- د. جمعان بن عبدالكريم