فاطمة حماد البلوي ">
شارفت رحلة ابتعاثي لمرحلة الدكتوراه على الانتهاء وبدأت قطف ثمار سنوات من عمري قضيتها بعيدا عن الأهل والوطن بين فرح وحزن وبين ألم وأمل.. وأسأل الله العظيم أن يوفقني ويشد أزري ويعينني على رد الجميل إلى هذا الوطن المعطاء...
لا أنكر أني خلال هذه السنوات فقدت متعة مشاركة أهلي وأحبتي لحظات جميلة ومناسبات سعيدة الواحدة تلو الأخرى ويتربع على قمتها يوم زواج أخي الأصغر ويوم أن رزقه الله بأول مولود.. ولكن أعلم وكلي يقين أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا وأعلم أن لكل مجتهد نصيبا وأن تلك الآلام ستزول بمجرد عودتي إلى أرض الوطن حاملة بين يدي حلما قد تحقق ونجاحا لطالما وعدت أحبتي ووطني بالوصول إليه...
خلال ست سنوات قضيتها في المملكة المتحدة تعلمت فيها الكثير والكثير من أمور الحياة خارج أسوار الجامعة وداخلها وتعلمت ان في الغربة دروسا عظيمة لا تقدر بثمن.
مررت بعدة محطات خلال سنوات الابتعاث رسخت في ذهني ودفعتني لتأمل حال مبتعثينا وجامعاتنا وكوادرها
المحطة الأولى كانت عند وصولي لبلد الابتعاث وقد بدأت الدراسة منذ اسبوعين.. تأملت كيف استقبلني الموظفون في الجامعة بترحاب شديد وابتسامة عريضة... ليرشدوني بعدها الى الخطة الدراسية والفصول وكل ما أحتاج اليه من معلومات...
تذكرت حينها حال جامعاتنا وكيف يتم استقبال طلابنا وطالباتنا الذين هم اللبنة الحقيقية لبناء أمة متقدمة والبنية الأساسية لبناء مستقبل مزهر ومجتمع آمن... وتذكرت كيف يعامل بعض من موظفي الجامعة طلابنا بل وربما أهاليهم ايضا بدونية مقيتة بدءا من موظف الأمن والسلامة وموظف عمادة القبول والتسجيل ومرورا بالإداريين وأعضاء هيئة التدريس... بينما ترتسم الابتسامة المزيفة على وجوههم ويلبسون ثوب الأخلاق الرفيعة المزيف أيضا أمام من هم في مرتبتهم او من هم أعلى منهم فقط... حاولت إيجاد المبررات لتعاملهم السيئ مع الطالب فلم أجد أي مبرر سوى غياب الضمير والرقابة والعقوبات الصارمة..
تعلمت من هذه التجربة أن موظفي الجامعة وكوادرها الإدارية والأكاديمية هم المرآة الحقيقية التي تعكس صورتها المشرقة أو المظلمة والمشوهة.. وتعلمت أن أميز بين الاحترام الحقيقي والاحترام المزيف... وأن ما يرفع مكانة الفرد في المجتمع هو احترامه الحقيقي والصادق للكبير والصغير وللضعيف والقوي على حد سواء وليس استغلاله لنفوذه وممارسة سلطته على من هم اقل منه سلطة وقوة.
المحطة الثانية كانت حين تخرجت من الماجستير ووافق البروفسور زولتان دورني الذي أسس أهم النظريات في مجال الدافعية والتحفيز لتعلم وتدريس اللغات وكتب عدة كتب سواء في هذا المجال او في مجال علم اللغويات النفسي بشكل عام أن يكون مشرفي في مرحلة الدكتوراه.. سألته حينها ماذا يعني حصولي على درجة الدكتوراه؟ فأجابني انها درجة علمية تثبت اقدامك في عالم البحث العلمي وتسلحك بأدوات ومناهج بحثية وأخلاقيات علمية تساعدك على المضي قدما في رحلة البحث والمعرفة
وأن من يحصل على هذه الدرجة العلمية له أن يسلك أحد طريقين: أولهما أن يعلقها على جدار مكتبه ويضع بجانب اسمه حرف الدال ويستغلها لمصالحه الشخصية كالرفع من مكانته الاجتماعية ومنصبه الوظيفي وثانيهما أن يكمل طريقه كباحث ومفكر ومفتش عن أجوبة وحلول لكثير من الأسئلة والمشاكل المستجدة حتى ينفع البشرية بعلمه. هذه الإجابة عن سؤالي أجبرتني ان أتأمل حال أعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا وهم الأولى والأجدر أن يسلكوا الطريق الثاني ولكن الواقع غير المأمول فكم من (دكتور) لم بسلك هذا الطريق ولم يكلف نفسه حتى جهد الاطلاع على مستجدات البحث العلمي ومواكبة ما توصل إليه البحث العلمي من نظريات بعد حصوله على الدكتوراه وترقيته الى استاذ مساعد.
كم من دكتور أوهم العالم والمجتمع بعد ان امضى ثلاث سنوات ليجد إجابة لسؤالين او ثلاثة في أطروحة الدكتوراه إنه ألم بكل العلوم والمعارف في مجاله ولا يحتاج أن يمضي ما تبقى من عمره في البحث والاطلاع.. كم من دكتور ينظر إلى طلابه بنظرة دونية ولا يستمع الى انتقاداتهم واقتراحاتهم واحتياجاتهم وإبداعاتهم ظنا منه أنه الأعلم والأقدم والأكثر خبرة، فقط لأن اسمه مسبوق بحرف الدال.. بل ومنهم من ينظر الى المعيد او المحاضر بدونية وربما يكون هذا المعيد أو المحاضر أكثر منه اطلاعا واجتهادا وخبرة..
المحطة الثالثة كانت يوم ظننت أن إضافة اسم مشرفي بجانب اسمي في أوراقي العلمية وكتابي الذي أخطط لكتابته بالإنجليزية والعربية سيزيد من رونقها ويرفع من مكانتها العلمية.. ولكنه رفض... رفض طلبي وشرح سبب ذلك بأنه لم يبذل أي مجهود يذكر في بحثي.. لم يجمع البيانات ولم يفرغها، لم يحللها، لم يجد إجابات لأسئلة بحثي، لم يكتب نيابة عني، فقلت له ولكنك وجهتني عندما أخطأت ودعمتني في كل خطوة وأرشدتني عند الحاجة والفضل بعد الله يعود لك في إنجازاتي فأجابني بأن هذا واجبه كمشرف وأنه يتقاضى أجرا ماديا على ذلك.. وأن أخلاقه وأمانته العلمية لا تسمح له بوضع اسمه كذبا وزورا وهو لم يبذل اي جهد فعلي في بحثي.... وأكد أنه مؤمن بأني أستحق التفرد بقطف ثمار مجهودي وحدي دون أن يشاركني أحد..
تأملت حينها مرة اخرى حال جامعاتنا وكيف يفتقر بعض من أعضائها الى هذه الأخلاق السامية في البحث العلمي.. وكيف يتبادل الباحثون المجاملات بإضافة أسمائهم في أوراق علمية حتى يزيد عدد أوراقهم العلمية المنشورة فيختصرون طريق الترقيات بمجهود أقل.
تعلمت من هذا الموقف أن الأمانة البحثية والأخلاق العلمية شرف، وحماية هذا الشرف واجب على كل أكاديمي وباحث مخلص لا يقبل التسلق على أكتاف الآخرين.. ولا يقبل خيانة الأمانة العظيمة الملقاة على عاتقه.
تعلمت من هذا الموقف أن ليس كل حامل للدرجات العليا هو باحث حقيقي.. وأن لا أحترم الألقاب والشهادات بقدر ما أحترم الفكر والعقل الذي يحدثني... وتعلمت أن هناك باحثين ومفكرين ومثقفين لم يحصلوا على فرصتهم في التعليم العالي ولكنهم أعلى قدرا ومكانة وثقافة من كثير من حاملي الشهادات العليا..
ما زلت رغم كل السلبيات أحلم باليوم الذي تشارك فيه كل مؤسساتنا العلمية والأكاديمية والقائمين عليها في نهضة الوطن وتنمية الاقتصاد المعرفي في كل المجالات وسأظل أحلم ما حييت بوطن يهدف أفراد مجتمعه إلى رد الجميل لهذا الوطن المعطاء بإخلاص والى الصعود به الى مصاف الدول الكبرى والمتقدمة.
وسأظل أحلم أن يكبر أبنائي والأجيال القادمة في وطن يتصدر دول العالم في كل مجالات البحث العلمي ويرتكز اقتصاده على العلم والمعرفة والابتكار... فكل الدول المتقدمة تضع البحث العلمي في مقدمة أولياتها مدركين انه أساس تقدم وتطور الأمم.
معهد اللغة الإنجليزية - جامعة الملك عبد العزيز - باحثة دكتوراه في اللغويات التطبيقية بجامعة نوتنجهام بريطانيا