جميل أن نتحاور دون إقصاء أو تهميش، والأجمل أن نتبادل المعرفة والرأي دون ترهيب..!
منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي لم تتوقف الأعاصير الاستبدادية والظلامية المعادية للحرية في كلِّ مجالاتها عن التربُّص أو الانقضاض على عناصر هذه الحرية ولوازمها، وعلى رأسها حق الاختلاف واحترام ممارسته في الحياة اليومية للناس في البلدان العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.
فقد أخذت ثقافة الحوار والاختلاف بالانحسار، خصوصاً في السنوات الأخيرة، قبل أن تترسخ وتتجذر في الحياة اليومية للناس، وتقلّصت ألوان الحوار المجتمعي لتحل محلها الثقافة المونولوجية، ثقافة الصوت الواحد واللون الواحد التي لا تقبل الاختلاف، بل تُلقي بالمختلف الآخر في حظيرة التآمر أو الخيانة، فغابت الحوارات حول القضايا الصغيرة والكبيرة في شتى المجالات السياسة أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافة حتى الأدبية.. إلخ .
ولم يكن ليحدث ذلك لولا ضعف ثقافة الحوار والديمقراطية والمواطنة في المجتمعات العربية وانعدامها في كثير من الأحيان، ليس فقط في بنية الأنظمة الحاكمة، بل في بنية التوجهات والحركات والمنظمات السياسية والفكرية القائمة على الساحة العربية، التي نتجت أساساً عن صراعات لا عن حوارات، وامتد ذلك الأمر حتى بين الناس العاديين أنفسهم الذين تحولوا إلى وقود للصراعات العرقية والطائفية بعد أن أصبحوا مجرد صدى ومتلقٍ للتوجهات الفكرية والسياسية التي تصدر سواء عن الأنظمة أو الحركات السياسية والفكرية القائمة دون أي تفاعل معها أو تأثيرٍ فيها.
فالمتتبع لطبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلدان العربية، سوف يجد أن السمة الغالبة عليها تظهر بوضوح من خلال انتشار مظاهر سيادة الرأي الواحد واللون الواحد وطغيان الاستبداد، والانتهاك الواسع للقانون وغياب العدالة، وتدني مستوى التعليم، وارتفاع نسبة الأمية، والتمييز في حقوق المواطنين، وطغيان ثقافة الاستهلاك على حساب ضعف الإنتاج إن لم يكن منعدماً، باستثناء اللهو وراء إشباع الرغبات الجنسية، والانتشار الواسع لمظاهر الاتباع وغلبتها على مظاهر الإبداع، وشيوع نزعة التقليد في مقابل انحسار رغبة الابتكار، وتجريم حق الاختلاف بصفته خروجاً عن رأي السلطة أو الجماعة، وغدا الخطأ في الاجتهاد نهاية «ضلالة البدعة المفضية إلى النار»، وصعود لغة العنف، لا الحوار، والنظر شزراً إلى الخروج عن رأي السلطة أو الجماعة، فضلاً عن العداء السافر للتجريب الذي يعصف بالقيود. فابتعدت الناس عن الاجتهاد والاختلاف وآثاره الضارة، فآثرت السلامة من خلال الإذعان لما هو سائد من أفكار تلك السلطة أو تلك الجماعة وعاداتها ونواهيها. وكل ذلك أدى إلى انتشار مناخ الاستخفاف برأي الآخر المختلف وتفضيل السمع والطاعة على التفكير والحوار الذي أصبح غير مرغوب فيه.
إن تلك المظاهر والمعوقات، التي إن بقيت فسوف تقودنا في نهاية الأمر إلى الهاوية، ولن يكون بمقدورنا التخلص منها، وإزالة آثارها التي حفرت عميقاً في حياة الناس، إلا من خلال نشر ثقافة الحوار المبنية على التسليم بحقّ الاختلاف والتنوع، وترسيخ أدبيات الحوار لدى الحكام والمحكومين على السواء، والخطوة الأولى لتحقيق ذلك هي تأكيد حقِّ الاختلاف ليس على مستوى الكلمات أوالشعارات فحسب، بل وعلى مستوى الممارسة الفعلية، بدءاً من البيت والمدرسة والجامعة والمعمل وأماكن العبادة وصولاً إلى البرلمان والحكومة والرئاسة.. إلخ. وتشجيع الكبار للشباب على التميُّز والاختلاف، وتقبُّل الاختلاف بين الأجيال المتعاقبة، بصفته سُنَّة الحياة؛ بل تقبُّل الاختلاف بين المتحاورين من أبناء الجيل الواحد، بصفته الأمر الطبيعي والشرط الأول لاغتناء المعرفة والإبداع. ولن يكتمل معنى هذه الخطوة إلا بإشاعة الممارسة الديمقراطية في كلِّ مستوياتها ومجالاتها وبالأخص منها في المجال السياسي، والقضاء على كلِّ أشكال التعصب، وإشاعة قيم التسامح والمرونة والانفتاح على الجديد، خصوصًا لدى الأجيال الشابة التي ينفر الكثير من أفرادها اليوم من الحوار لأنهم نشأوا في غيابه، واعتادوا على ثقافة اللون الواحد، ولم يجدوا أمامهم سوى ثقافة العنف والقهر والتسلط، ولا سبيل إلى مواجهة هذه الثقافة التي تجذرت في حياة الناس على مدى مئات السنين من الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات، إلا عن طريق نقيضها الذي يفيض بالتسامح، ويَعْمُر بالانفتاح على الآخر، ويؤمن بالتقدم الدائم إيمانَه بالمعرفة التي تزدهر بحرية التفكير والتجريب، من خلال تأسيس ونشر أخلاق الحوار، وممارسة حقّ الاختلاف، بصفته مبدأً أصيلاً من مبادئ الديمقراطية، وعلامةً دالَّة على حيوية الثقافة الصاعدة إلى الأمام، لا المنحدرة إلى الوراء.
ولا يمكن لأي دولة من الدول أو مجتمع من المجتمعات القائمة على هذه الأرض، أن ينهض أو يتقدم إلى الأمام من دون أن تتوفر فيه ثقافة الحوار، وحرية الفكر والتفكير وحق الاختلاف في الرأي، وفي الوقت نفسه نبذ العنف والتخلي عن ثقافة التهميش والتغييب والإقصاء والاستئصال, باعتبار أن ذلك يشكل الأساس الأول لتقدُّم المجتمعات وتطورها، وأن نهضة أي مجتمع لن تتم ولن تندفع إلى الأمام، إلا من خلال إيجاد أرضية للتعددية والتعايش، والاتفاق على صياغة مجموعة متناسقة من القيم الروحية والأخلاقية التي تأخذ في الاعتبار التنوع الإنساني الخلاق في المجتمع، والتفاعل الحر بكل مكوناته السياسة والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وفتح أبواب الحوار والاجتهاد الحر على مصراعيه، واستبدال ثقافة الاتباع بثقافة الإبداع، وممارسة التجريب الذي لا يتوقف في كلِّ مجال. وضرورة الانفتاح على كلِّ العوالم والثقافات التي يمكن لها أن تؤدي إلى ازدهار المعرفة والتفاعل معها، بما يؤدي إلى الإفادة منها، والإضافة إليها - وترسيخ ثقافة تقبُّل الآخر المختلف أو المغاير عنا في كلِّ مجال، وعلى كلِّ مستوى، بصفته الوضع الطبيعي للحياة في هذه الدنيا، والشرط الضروري للثراء الناتج من التنوع. وتحرير العقل من كلِّ قيوده، ليمضي في أفقه الواعد، متحررًا إلا من التزامه مبدأ المُساءلة الذي يُخضِعُ له كلَّ شيء، بما في ذلك العقل الذي لا يكفُّ عن مُساءلة نفسه قبل مُساءلة غيره، أو حتى في فعل مُساءلة غيره.
باختصار، يمكن القول إن الحوار لا يمكن أن يقوم بقرارات أو أوامر من فوق، ولا يمكن فرضه بالقوة، فهو كالحب والصداقة لا يولد بالضغط ولا بالترغيب. إنما يولد بالتسامح والانفتاح على الآخر المختلف عنا واحترام وجهة نظره، وتفهمه وعدم رفضه، وقبوله كما هو وكما يحب أن يعيش وكما يرغب أن يكون، لا أن نجعله صورة عنا أو ندمجه فينا، وأن نبتعد نهائياً عن التمترس وراء آراء ومواقف واجتهادات مسبقة، وكأنها مقدسات ثابتة غير قابلة لإعادة النظر فيها أو النقاش حولها.
فلن نستطيع استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف وآراء بعضنا البعض بدون الحوار والتلاقي, ولن نستطيع نحن أبناء الوطن الواحد أن نتقارب أو نتفاهم دون أن نتحاور في مواقفنا وآرائنا! فإذا لم يكن هناك حوار بيننا، فسوف ينطوي كل واحد منا على ذاته وتقع القطيعة بيننا، لأن البديل الوحيد عن الحوار هو القطيعة بلا أدنى شك، التي سوف تؤدي إلى انتشار ثقافة الشك والحذر، التي سوف تقود نتيجة حتمية واحدة، هي العداء والتصادم والتقاتل.
إن عملية نشر ثقافة الحوار والاختلاف وتشجيعها في كل الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, لا يمكن أن تكون عملية موسمية أو منحصرة في جانب معين، بل هي عملية متكاملة مترابطة ودائمة ومستمرة، وشاملة لمختلف نواحي الحياة وميادينها، ولن تتحقق هذه العملية دفعة واحدة، بل تحتاج إلى وقت طويل حتى تؤتي ثمارها، المهم الآن أن نخطو الخطوة الأولى نحو الاعتراف النهائي بحقّنا جميعاً حكاماً ومحكومين في ممارسة حرية الحوار وحق الاختلاف.
راشد الدوسري - جامعة الإمام محمد بن سعود