يعد التعليم العام أعظم الاستثمارات وأكثرها ديمومة على الإطلاق، ومن واقع التجربة أتحدث وليس الخبرة، فلست من أهل التربية والتعليم، أجد أن التعليم لدينا دخل في منعطف خطير منذ سنوات، كانت الفكرة السائدة هي وحدة المناهج التعليمية أو توحيد المناهج، لن انتقد هذا المبدأ ولكن لا أجد بما يقابله مبرراً لتمسك به كذلك، ظهرت استثناءات في مجمل الصناعة التعليمية مارستها بعض الجهات الرسمية، كمدارس الهيئة الملكية في كل من الجبيل وينبع ومدارس وزارة الدفاع حيث تميزتا بالجودة النوعية في العملية التعليمية وإن لم تخرج عن مجمل المناهج المعتمدة، ورغماً عن ذلك كانت بعض هذه الاستثناءات هدفاً لذلك التوحيد المزعوم، ملاحظتي حين كنت أعمل بالجبيل الصناعية فلم أتحصل على سكن بأحياء الهيئة وذلك لأن منسوبي القوات البحرية كانوا يزاحمون منسوبي الهيئة في السكنى للإيفاء بشرط التحاق الأبناء بمدارس الهيئة لقصورها على الساكنين داخل حدود المدينة الصناعية رغم ارتفاع قيمة الإيجارات. كانت الأسر تدرك أهمية جودة التعليم والسمعة التي حققتها الهيئة الملكية على جميع الأصعدة وأحدها جودة التعليم بمدارسها رغم مجانيته. تكمن المشكلة لدينا أحياناًً أنه يتم وأد التجارب الناجحة لأنها محصورة أو محدودة أو رغبة في ممارسة السلطة من أجل السلطة نفسها، وليس تشجيع تلك التجارب ومحاولة محاكاتها لاكتساب العدوى منها، كحال مخبز لم يقدم إلا صنفاً واحداً طوال عهود، وحين عرض الحلواني مخبوزات متنوعة احتج الخباز لشعوره بأنه غلب في صنعته محتجاً أنها حكر عليه. صدر قرار بهدف تطبيق مبدأ توحيد الجهات المشرفة على الصناعة التعليمية، وذلك بأن عمد القرار إلى فصل تلك المدارس داخل قطاعي الجبيل وينبع الصناعيتين عن الهيئة وإلحاقهما بالوزارة من حيث الإشراف المباشر، لا يخفى ما تعانيه مناهج وطرق التدريس العام من نقد ومحاولات التصحيح المتوالية مع تدني الاهتمام برائد الصناعة التعليمية ألا وهو المدرس والذي لم يكترث به أحد، وهذا تحديداً ما تفوقت فيه مدارس الهيئة الملكية بأن صبت جل اهتمامها على المعلم وكرست في سبيل تطويره وتأهيليه لما هو متاح لها من القوة المالية ومحدودية المدارس ضمن المدينتين وإن أخفقت نسبياً في إيجاد حل في جانب المناهج لإلزاميتها، ولا أدري أكان لهذا القرار سبب وجيه أم مجرد الرغبة في صناعة منتج ذي جودة محددة، فحتى مصانع الألبان لديها مخرجات بنكهت متنوعة حتى وإن طغت النكهة الأصلية من حيث الكم. لا علم لي بعد ذلك هل طبق القرار أم بقي حبراً على ورق كما نأمل ونتمنى، فمن الجيد أن تتعدد التجارب وتتنوع حتى لو أدى ذلك أحياناًً إلى تعدد الجهات الإشراقية. إن من المبادئ الجيدة على العموم والإطلاق مبدأ التغيير، ولكن يجب أخذ الحيطة حين يمس بالنشء لما له من تبعات على الجيل القادم. قرار التقييم في الفصول الأولية وإلغاء الامتحانات! من المؤكد أن له جملة أسباب وجيهة أخشى أن يكون أحدها الترشيد في استهلاك الورق، ولكن هناك أمر غفل عنه متخذ القرار في حينه وهو الطبيعة البشرية في اكتساب الفضائل، يميل الإنسان إلى العائد لقاء إنجازه، وهذا أمر فطري والطفل في المراحل الأولية يتوقع التشجيع والإطراء الفوري لكل إجابة أو مشاركة (شطور، برافوا، تصفيق لزميلكم...). وهنا جاء دور الامتحانات الورقية منها على الخصوص لتكسب الطفل فضيلة لم يعتد عليها خلال سنواته السابقة وهو العائد الآجل بدل الفوري والحال، ويعني تهذيب الطفل على تقبل العطاء في صبر وهو يملأ ورقة الامتحانات بالإجابات مع تأجيل الإطراء إلى موعد استلام النتائج، والموجع في الأمر أن ذلك الإطراء المؤجل ليس فعلياً بل سلسلة أرقام على ورق يصعب على الطفل الشعور بالإشباع من خلاله، لتمارس الأسرة دور الإطراء العاطفي بإقامة حفلة لإنجاز متوقع سلفاً. فقدت هذه الفضيلة وفقد معها زخم الجدية في التحصيل لما للامتحانات من الرهبة المولدة لحافز الجدية والمثابرة وتدنى تبعا لها المستوى التعليمي بشكل ملاحظ، حتى بات التهجي والكتابة إنجازاً يستحق التوقف لمن وصل المرحلة المتوسطة. علمتني الحياة المهنية في ظل المنظمات الرسمية أنه في الزمن الذي تعصف فيه القرارات السلبية توجد الإيجابية منها ولو بخفية، لابد من وجودها، هكذا تقول الأسطورة، كل ما عليك هو البحث عنها، تضيق الدنيا من جانب لتتسع من جانب آخر، صدر قرار بالسماح لمن أراد الالتحاق بالمدارس العالمية مع السماح بالتوسع في تطبيق المناهج الدولية بعد أن كان قاصراً على من عاد من ابتعاث أو عمل بالخارج، كان هذا القرار وإن تأخر حينها إلا أنه بدا حلاً مثالياً حين طبق، جنب كثيراً من السلبيات السابق ذكرها إلا أنه حمل سلبية جديدة لم تخف على أحد، إن تغريب الطفل بمزاحمة لغته الأم بلغة أخرى منذ أولى سنوات عمره كانت بمنزلة ضريبة قبلنا حينها الالتزام بدفعها في سبيل التخلص من تبعات أميمبطنة سيعاني منها حتماً من اكتفى للركون إلى ما هو متاح مجاناً.نسيت أن أعلق أن الأصل في الحياة ومنها المناهج التعدد والتنوع، والتماثل والتضاد، والجودة والرداءة، ولا يتحصل ذلك إلا بمنح مساحة من الصلاحيات للمدارس في اختيار مناهجها لمن أراد الزيادة على منهج الوزارة والتي يجب أن تمثل الحد الأدنى الضروري من المعرفة، وللمعلومية فإن مقرر اللغة العربية في المنهج البريطاني تبنى روائع الأدب العربي الحديث نثراً «كوحي القلم» لصادق الرافعي ومختارات من «نظرات» لطفي المنفلوطي، ولكم تخيل ذلك فصاحة وبلاغة وفكراً بالمقارنة مع مقررات المنهج العام.
- لقمان سيف الرحمن الدهلوي
dahlawil@gmail.com