في ضحى يوم الخميس الثامن عشر من شهر ربيع الثاني لعام سبعة وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية فجعت قبيلة حمالة من قحطان بموت الشيخ راشد بن مترك ابن كريسيع ألحمالي عن عمر ناهز التسعين عاماً، قضاها -رحمه الله- مخلصاً لدينه ووطنه وولاة أمره. ولا شك أن الموت طريق مسلوك ومنهل مورود ومعبر للدار الآخرة، والمولي عز وجل قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (.... الآية)
والكلمات والعبارات تعجز وتقف عن سرد سيرة هذا الشيخ الجليل والهامة التي وقفت شامخة لبذل الغالي والنفيس لقبيلته ومحبيه. ومن عاشره وتجاذب الحديث معه يشعر أنه أمام شيخ حكيم لبيب ومخضرم عاصرته وعصفته السنون والأحداث وصنعت منه هذه القامة الرفيعة والمنزلة العالية والسمت المتزن...
ولا أعلم من أي أبواب السير سأدخل معكم، ومن أي أبواب القصيد والمديح توفيه حقه ومن أي أبواب الجود والزهد والكرم والدين أحدثكم عنه. عاش هذا الرمز والشيخ الجليل بحراً في الجود والكرم، وحبراً في الحكمة والحلم والأناة ورحب في حل الأمور إذا تعقدت وتشربكت فيتصدى لها بالحنكة والحكمة والمشورة والرأي السديد الموفق..
عاش هذا الشيخ شمعة بين قبيلة حمالة منذ أكثر من خمسين عاماً وهو في بلدته جو التابعة لمحافظة ضرماء هو وقبيلته حمالة، وهي من القبائل الرئيسية التي شاركت مع الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه- في توحيد المملكة تحت راية التوحيد. ولا يعرف عن الشيخ راشد -رحمه الله- إلا محبته في بذل الخير والجود والكرم ووجاهته بجماعته، ومن سكن وجاوره في هذا البلد، ومن زاره في منزله العامر بجو شاهد بعينه هذه السجايا فيه.. رحمه الله.
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وكان مقدراً ومحترماً من قبل ولاة أمرنا سددهم الله ووفقهم لكل خير وعز وتمكين.. وعلى رأسهم ملك الحزم والعزم والحكمة الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله- وكان عايش الملك وعاصره وهو أمير للرياض، وكان رحمه الله يصلهم بين الفينة والأخرى، وله علاقة قوية تربطه بين بقية أبناء الملك عبد العزيز، وكذلك أصحاب السمو الأمراء والوزراء والعلماء والمشايخ مقدراً لهم، ويعطي رحمه الله لكل مقام قدره ومنزلته..
كان -رحمه الله- عابدا لربه محافظا على الصلوات في مسجده الذي بجواره لا تفوته صلاة في حضر أو سفر أو صحة أو مرض.
يتفقد جيرانه وقرابته، ويصل مريضهم، ويحضر مناسباتهم على كبر سنه وشيخوخته ومرضه الذي أقعده.
وكان رحمه الله يسأل من حوله من أهل الحاجات من الأرامل والأيتام، ويبعث لهم ما تجود به نفسه من المال، وكذلك بواكير الرطب والتمر وخلافه، ويسأل عنهم بين الحين والآخر ابتغاء ما عند الله.
كان قدس الله روحه بالجنة مصلحاً اجتماعيا بين الأسر والأزواج إذا احتيج أن يتدخل لمنزلته الرفيعة عندهم، وكان رأيه لهم كالبلسم الشافي للم الشمل بين الأسر والزوجين.
كان رحمه الله هذا الرمز زاهداً في هذه الحياة لا يكثر من متع هذه الدنيا أو الصفق بالأسواق والبيع والشراء، بل كان رحمه الله عابدا زاهداً يرغب فيما عند الله والدار الآخرة.. فما يأتي إلى مجلس إلا ويكثر من ذكر الله وتسبيحه والمواعظ الطيبة الرشيدة ويسأل عن أحوال المسلمين ويكثر الدعاء لهم بصلاح الأحوال، وكذلك يحب سماع الشعر الحسن الجميل، وتاريخ أنساب العرب والبلدان...
وكان يحل مشاكل الخصومات التي تحدث بمعرفته بالحكمة والعقل الراجح، ولا يحب رفع الصوت بالكلام الفاحش البذيء، وكان رأيه يغلبه الصواب وصمته حكمة، ولا يوجد له أعداء أو خصوم يعادونه.
فإذا علم أحد من جماعته أو قبيلته وجد عليه شيئاً ذهب إليه في منزله وهش وبش معه وتناول معهم الأحاديث وأطايب الكلام وتحلل منه باحترام وحب ولطافة عجيبة..
وكان رحمه الله يصلح ما بين المتخاصمين بلطف وأدب جم وعقل راجح وحنكة حاضرة وحلم وأناة واحترام حتى يعودا كما كانا متصاحبين واضعا نصب عينيه ( والصلح خير).
ولا يحل أميراً أو عالماً أو داعية إلى هذه البلدة مركز جو إلا ويخصص بزيارة له ويستقبلهم ويحتفي بهم ويكرمهم أيما إكرام.
وكان رحمه الله يشفع في الدماء ويتوجه فيها بين قبيلته أو غيرها ويبدي رأيه الراجح، ويعد هذا العمل من القربات عند الله والنفع المتعدى بين القبائل شعاره قول الله تعالي (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).
يحبه الصغير والكبير والرجل والمرأة والعامل والخادم والسائق، وحتى أثناء مرضه -رحمه الله- كان الطاقم الطبي والفني بالمستشفى يقوم بخدمته ومؤانسته.
فاضت روحه -رحمه الله- من غير أن يشعر أحد به في غرفته بالمستشفى، وهذا من عاجل بشرى المؤمن، كما جاء في الحديث ( كما تسيل القطرة من فم السقاء )
شهدت جنازته للصلاة عليه يوم الجمعة 19-4-1437هـ في جامع الأمير بدر بجو جموعا من المسلمين امتلأ بهم الجامع والساحات الخارجية لم يشهد أحد قبله هذا المشهد، وصلى عليه الأمراء والمشايخ والدعاة وقبيلته ومحبوه ومن عرفه وعايشه.
ودفن رحمه الله في مقبرة جو التي عاش فيها وأحبها وتمكن حبها في قلبه وأحب أهلها وهواءها وترابها..
ومن نظمه قال فيها:
الله يبارك لكل في بلاده
ماحلا نجد ولوفيهاسمومي
ديرة رجال الشهامة والعبادة
والكرم واللي يسدون أللزومي
زين شوفة جو من دون الحمادة
والنفود تحدها تلك الخشومي
رحمك الله يا شيخ راشد حياً وميتاً فقد تركت مكاناً واسعا.
رحمك الله ياشيخ راشد ولوعة في قلوب محبيك وجماعتك وقبيلتك ومن عرفك وعايشك لا تفارقهم.
رحمك الله ياشيخ راشد يوم أن يفقدك الأيتام والأرامل وأصحاب الحاجات.
رحمك الله ياشيخ راشد يوم أن نفقد ابتسامتك وتهليلك وترحيبك ومحياك البهيج.
رحمك الله يا شيخ راشد يوم أن يفقدك أبناؤك وبناتك البررة، وهم يتناوبون على خدمتك وبرك صحيحاً وسقيماً حياً وميتاً رحمك الله يا شيخ راشد وجعل الفردوس الأعلى منزلك.
والعزاء موصول لأبناء الفقيد: الشيخ تركي بن راشد رئيس مركز جو وبقية أبنائه العقيد فهد وبدر ومحمد، وبقية بناته الكريمات وزوجته الموقرة أم تركي، الذين ما فتئوا في خدمة والدهم صحيحاً وسقيماً، وحفيده البار راشد بن تركي، وعزاؤنا لقبيلة حمالة كافة، وعلى رأسهم الرجل الكريم المعطاء البار محمد بن سعد ألحمالي وإخوانه، وقبيلة حماله ومحبوه ومن عايشه وأحبه..
وأختم مقالي بأبيات قيلت في رثاء الشيخ راشد بعد وفاته رحمه الله:
الموت حق ولاعلي الحق معذار
والصبر مفتاح القلوب الحزينة
والعبد يؤمن في تصاريف الأقدار
يؤمن بحكم القدر شينه وزينه
ياجعل ابوتركي بجنات وانهار
والله يصبر من فقده ويعينه
- إبراهيم بن محمد آل سعد القحطاني