رمضان جريدي العنزي ">
الشمال فج عميق كلنا يدرك ذلك ويعيه، ابتداء من شعبة نصاب مروراً برفحاء وحتى طريف، وما بينها من قرى وهجر، إن المتأمل في خرائط هذه المدن الصحراوية، يدرك أن لها محيطاً وارتكازاً ومداراً من سالف الأحقاب والآثار، حمل إنسانها كل صروف الدهر حتى تكلل مجداً وعزة ووقاراً، وفاض بلاغة، وتفيأ الظل، وعانق السحاب الكثيف، نطق الشعر حتى بلغ بيانه، حفظ الضاد أصوله وفروعه، أنبت الشجر حتى أزهرت أغصانه، حمى السور والدين والمعتقد، نهض في صعاب الأمور، أتقن أبجدية الولاء والفداء والانتماء، للأرض ولأولياء الأمر، مع عدوهم لا يساوم ولا يهادن، يتكوم فوقهم غيمة، يتقاطر مطراً مدراراً لهم، ودمه للذود عنهم يصبح نهرا، وعنهم يرسم الطريق جماجم وعظاما، هو للوطن وأولياء أمره ذئباً وسيفاً ونسراً، يفور لأجلهم شواظ شرار، هو للوطن ركن ومتكأ، يصعد به نحو الآفاق والأغوار.
وبعد يا سمو منطقة الحدود الشمالية، لم أشأ الكتابة إليك إلا بهذه المقدمة، لأن الشمال إنسانه وأرضه يعبئ روحي دائماً لمثل هذه المقدمة، كيف وأنت الآن أصبحت ربان الشمال وصاحب المقود والقيادة، أعرف سلفاً بأنك تخطط للنهوض بهذه المنطقة، وبأشجارها وشوارعها ودروبها ومداخلها وبيوتها، وأنك تريد أن تملأها بالمصانع والمعاهد والإنتاج والخضرة والحديقة والضوء والنور والنوافير الملونة، وأن تجعل القمر يجثو بجانبها، والنجوم فوانيس عشق لها، والغيوم ظلالها، وهفيف الأنسام يعبر جسدها، وروائحها زكية تنثال من هنا وهناك، والناس يزورونها ويمشون بها للمؤانسة والمسرة، كي تصفو الحياة فيها أكثر.
إن الناس يا سمو الأمير في الشمال هناك يريدون أن تكون سواقيهم عامرة بالماء، والأمكنة مضاءة، والحجر والرصيف لونه شفيف.
يا سمو أمير منطقة الحدود الشمالية، أنا مفتون بالشمال مكاناً، وتاريخاً، ومنزلة، وشأنا، ومعنى، ومندهش به، ومصاب بسحر مكانه الصحراوي ونرجسيته المتميزة، وهو عندي رغم صحراوية أرضه أشبه بالدوالي عناقاً وتعريشاً وتآخياً وهمساً وجمالاً، وهو عندي مثل المياه حين تمشي نحو مصباتها وفق خرير عذب، وهو عندي مثل قصيدة حسناء، أعيتني، حيرتني، وعذبتني، فحضورها وغيابها من الأسرار العواصي، أحياناً تأتيني مثل سيل جارف، وأحياناً تنقطع عني مثل مطر حرون، وهو عندي مثل تحليقات طيور فوق ذؤابات الأشجار، ومثل ساقية متخفية بين الأعشاب والأشجار، وهو عندي مثل نثيث من رذاذ المطر الربيعي الخفيف، يهمي فوقنا فيبعث الانتباه والصحو فينا، ومثل هالات الضوء دوائر من نور مسه غبش طفيف، تحوم حوله طيور لا شغل لها سوى الرفرفة والزقزقة، ومثل شجيرات الورد والزيزفون وكروم العنب والشجيرات التي أشبه بالعرائش والأكواخ تتوازع المكان الفسيح، وقد حاذى بعضها بعضاً في قبب خضر تحركها الأنسام فتعلو وتنخفض مثل أردية عبتها الرياح، عنقي مشدود دائماً إلى هذا الشمال الساحر.
يا سمو أمير منطقة الحدود الشمالية، أعترف لك بصراحة تامة بأن مناطق الشمال وخاصة عاصمتها الإدارية عرعر بحاجة لانتشال سريع، وعمل دؤوب، وأن ينفض من على مراياها الغبار، سيما ونحن نعيش عصر السرعة والسبق والتحرك، إننا نريد منك وأنت القدير على ذلك، أن ترسم لنا في الشمال خريطة مكانية وزمانية تعيد للمدن الشمالية زهوها وحسنها وهيبتها ورونقها، وأن توقظ النائمين من سباتهم العميق، وتهزهم ليفيقوا، وأن توقف كل المناظر العبثية التي تخدش وجه المدن الشمالية الجميل البهي الحسن.
إنني متعلق بهذه المدن كافة وخاصة عاصمتها الإدارية «عرعر»، وأدور حولها مثلما يدور الفراش حول الضوء، لهذا نريد أن تساعدنا يا سمو أمير منطقة الحدود الشمالية في إنجاز المهمة، لكي نهيئ الشمال بأن يكون متميزاً وفريداً، إننا يا سمو أمير منطقة الحدود الشمالية، شركاء كلنا في الشمال، كجزء هام من أجزاء وطننا السعودي الكبير، فيما نراه، ونسمعه، ونعيه، ونفكر به، لهذا فإننا نناصفك حملك وهمك وحلمك وتطلعك، لكي يكون الشمال كله قبلة الناس ومنتهاهم، متسربلاً بحرير الأساطير ومناخ الروعة، ومتوجاً بسحر المكان وشلالات الإبداع، يشبه الوردة والعطر والمطر والمساء وهواء الربيع والنجوم الساكنة وبهاء الصباح والشمعة الموقدة وبرد الشتاء الخفيف والكحل والحناء، وأن يكون مثل مواسم المطر وخيوط الشمس ورتل النجوم وامتداد البحر وبرق الأفق وسيل المياه وظل الشجر وطير الحمام ومثل شروق يعقبه قمر.
هذا هو نزع حلمنا وطموحنا ومبتغانا ومرادنا، هذا ليس ترفاً بالحلم ولا بالمخيلة ولا مستحيلاً، إن للمدن الشمالية تأثيرات وانبعاثات يا سمو أمير منطقة الحدود الشمالية، الشمال بحاجة إلى من يبلله بالندى والعطر المميز ويرميه بالورد الأبيض والبنفسج، وإلى من يرتب هدوءه ويخفف عنه الضجيج، بحاجة إلى نقلة نوعية طافحة بالإبداع والابتكار والاستحداث العاجل.
إن المدن الشمالية يا سمو أمير منطقة الحدود الشمالية تستحق أكثر مما هي عليه الآن، وأكثر مما هو في مخيلتنا من مفردات سحرية، ومما في أفواهنا من قصائد غزل عذب ورقيق، إننا نريد أن نستيقظ ذات صباح لنرى المدن الشمالية كلها وقد اكتست ملامح جديدة وأزالت عن وجهها كل التجاعيد.
يا سمو أمير منطقة الحدود الشمالية، هي آمال وأحلام وتطلعات واقعية وددت أن أرفعها لك، لأنك القادر على إزاحة الإهمال، وإيقاظ النائمين، والتعامل مع الكسالى بسياط العمل، وإكمال السبحة ابتداء من رأسها.