ندوة علمية كبرى عن العلامة العبودي.. بمشاركة باحثين من المملكة والمغرب ">
الجزيرة - محمد المرزوقي:
تعقد يوم غد الجمعة، ثلوثية الدكتور محمد المشوح (الندوة العلمية الكبرى عن معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي) عميد الرحالين والمؤلفين السعوديين، وذلك بالتعاون مع جامعة القاضي عياض، في مراكش بالمملكة المغربية، ممثلة في كلية اللغة العربية، التي سيتحدث فيها نخبة من الباحثين السعوديين والمغاربة.
كما ستضم الندوة تقديم عدد من الدراسات والبحوث العلمية عن المحتفى به في الندوة - الشيخ العبودي - التي يأتي من بينها مشاركة للزميل الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، مدير تحرير الشؤون الثقافية في جريدة الجزيرة، وذلك ببحث علمي بعنوان: «تعادلية النص والشخص.. العبودي أنموذجا» وبحث علمي يقدمه الدكتور محمد المشوح بعنوان: «الرحلات المغاربية للعلامة الشيخ محمد بن ناصر العبودي» ومشاركة بحثية للدكتور عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان، رئيس مجلس الأمناء لمركز الملك عبد الله الدولي لخدمة اللغة العربية، ورئيس مجلس إدارة نادي المدينة المنورة الأدبي الثقافي، بعنوان : «إطلالة على جهود العلامة محمد العبودي في اللغة والأدب» إضافة إلى عدد من الأوراق البحثية التي ستشهدها الندوة من الباحثين والمشاركين فيها من المملكة والمغرب، التي ستقوم «الثقافية» بنشرها (كاملة) لاحقا.. إذ تعد ندوة الغد، هي ثاني الندوات التي تعقدها الثلوثية، عن جهود العلامة محمد العبودي، إذ أقامت الثلوثية ندوتها السابقة في رحاب جامعة القاهرة، حيث حظيت بتفاعل كبير من قبل منسوبي الجامعة من المهتمين بأدب الرحلات من أساتذة وطلاب.
وقد استهل الزميل التركي بحثه العلمي عن الرحالة العبودي بـ:
وقفة
يعني (النص) هنا آثار العلامة الشيخ محمد بن ناصر العبودي بجميع مكوناتها التأليفية والتعريفية؛ أجاءت على شكل كتب أم كتيبات أم معاجم أم مقالات أم مذكرات وذكريات أم نحوها، ويتجه ( الشخص) إلى قراءة ملامحه الإنسانية المتمثلة في طبعه وتعاملاته ومنهج حياته العامة.
توازن
بتعريفٍ ميسرٍ يمكن فهم التوازن عند قبول الشخص والعمل معًا؛ فبمقدار ما يستوقفك المنجَز تحترم المنجِز، مع أنه لا يمكن تجاهلُ المسافة الفاصلة بين طرفي المعادلة؛فالشخصية لا ترتبط بنتاجها ارتباطًا عضويًا ، وهو ما يجعل الحكم على الشخص عبر نصوصه حكمًا قاصرًا ، مثلما لا تستطيع النصوص تزكية أو إدانة قائلها.
وباستقراء الرموز العلمية التي نعرفها أو قرأنا عنها فإن التوازن عسيرُ التحقق، ونادرًا ما تلتئم اللهفة على قراءة كتاب ورؤية كاتبه أو قصيدة وقائلها أو رواية وساردها أو متن وشارحه، وقد نُصدمُ بالبون الكبير بين مكوني المعادلة؛ فنستعيد «المعيدي»، وربما جاء الشخص بهيًا فوافق الخَبر الخُبر، وبين الأنموذجين تجتمع نماذج أخرى محايدةٌ تسكن المنطقة الرمادية فلا ندنو منها ولا ننأى عنها، وفي ذواكرنا القريبة وقراءاتنا الممتدة تصطف حكايات «التعاكس والتماثل والحياد».
مواصفات النص
ليست كل التآليف بوزنٍ معياري واحد يؤهلها كي يُعتنى بها وبمؤلفيها،والمقام لا يسع تحديد مواصفات متبدلة تختلف بين موضوعات الكتب المتنوعة؛ فما ينطبق على ديوان شعري لا يناسب روايةً أو كتابًا أكاديميًا أو معجمًا لغويًا أو جغرافيًا .. وهكذا ، ولكننا سنتحدث عن النص – كما هو في آثار شيخنا العبودي ومماثليه؛ إذ نفترض فيها: الجدة والدقة والتوثيق والسبق والإضافة المعرفية وعدم الاستنساخِ والتكرارِ والنأي عن الإسهابِ أو الابتسارِ المُخلَّين.
بمثل هذه المواصفات سيتضاءل رقم الكتب التي تدخل في دائرة هذه المواصفات، ولا يعنيها هنا ارقام التوزيع ومبالغ المبيعات وصدارة الواجهات ومنصات التوقيع واحتفالات الجوائز.
مواصفات الشخص
ثمة مواصفات شخصية يبلغ بها الباحث مرتبة «الرمز المرجعي» تتطلب تفرده في الإمكانات العلمية والذهنية المتمكنة من الموضوعات المبحوثة مقرونةً بالمقدرة على المقارنة والمحاكمة والحكم والاستنتاج والخلوص إلى رؤىً تضيف وتضيء وقد تبتكر جديدًا أو تغير مسارات، وهو ما يفترض تكامل العقل الفاحص والمنهجية المنضبطة مع الإرادة الصارمة التي تتطلب الدأب والصبر والذهن المنفتح وقبول الجدل العلمي المنهجي والإيمان بالتخصص في إطاره العام، إضافة إلى الجرأة العلمية والشجاعة الفكرية واحتمال النقد مهما قسا والتراجع حين يرى الحق والنأي عن الأنوية المغرقة والعجب المبالغ.
هنا تقف المواصفات غير معنية بما وراءها من استقرار عاطفي وسلوكي ومقدرة على التفاعل الهادئ مع من وما حوله والتعامل الجميل مع الآخرين؛ فقد يكون الباحثُ حاد الطبع أو نزق المواقف أو سيئ السلوك دون أن يؤثر ذلك سلبًا على التسليم له بالعلمية والمنهجية والريادة وما يتصل بها من مرجعية وتقدير.
العبودي نصًا
يمكن الاطمئنان إلى معيارين مهمين يحكمان مسيرة الشيخ العبودي النصية، وهما الكمُّ الذي لا يُبارى، والكيفُ الذي تفرد به؛ فتآليفه – اليوم – بالمئات ، وهو رقم نادر التحقق في هذا الزمن، مثلما يجيءُ أكثر من نصفها في حقلٍ تخصص به الشيخ وهو الرحلات التي زار بها كل الأرض تقريبًا، وهو ما لم يحققه أي رحالة عربي قديمٍ أو معاصر، كما أن جهوده في المعاجم لا توازيها - فيما نعلم – جهود الباحثين العرب في تنوعها واستقصائها.
وللتدليل فللشيخ 140 كتابًا مطبوعًا في الرحلات و49 كتابًا مخطوطًا ، كما له أكثر من عشرين معجمًا مطبوعًا وعشرة تنتظر الطبع وأكثر من 30 كتابًا مطبوعًا في موضوعات متعددة كالدعوة والسير الغيرية والسيرة الذاتية وما يزيد على 34 كتابًا مخطوطًا ، اي أننا – باختصار – أمام ثلاث مئة مؤلَّفٍ للشيخ ، وبعضها يمتد في عدد من الأجزاء قد يصل إلى ثلاثة وعشرين جزءًا في معجم أسر بريدة وسبعة عشر جزءًا لمعجم أسر عنيزة وثمانية في معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة.. الخ، وبها تتخطى إصدارات الشيخ أربع مئة كتاب حتى الآن، وهو ما يعلو به نصًا ليكون في طليعة المؤلفين العرب ؛ لا في وقتنا هذا فقط بل عبر القرون ، مع علمنا أن في بعض التآليف العربية ما عُدَّ كتابًا وهو لا يتجاوز بضع ورقات.
العبودي شخصًا
في موقع الشيخ الذي أعد مادته العلمية عدد من الباحثين من مريدي الشيخ حُصرت بعض صفات الشيخ ، وأشاروا إلى أربعٍ منها وهي : الجدية والهمة وبذل العلم وحسن الخلق، ودعموا ذلك بشواهد من مسيرة الشيخ وسلوكاته العامة، وبتواكب التميز الشخصي مع التفوق النصي ألفينا عالمًا عاملًا جديرًا بمحبة العامة وتقدير الخاصة.
ومن واقع استقراء مجالسه المفتوحة والمغلقة ومحاضراته ولقاءاته وندواته ومعرفة الكاتب به منذ أمد وقربه منه خلال الأعوام الخمسة الأخيرة فإن للشيخ وسومًا أخرى أو متفرعة من الوسوم ، ومنها:
النأي عن الأنا
فلا يُرى الشيخ متحدثًا عن نفسه أو مُدلًا بإنجازاته أو مشيرًا إلى تقدمه على من سبقه أو لحقه، بل إنه لا يستجيب لمن يحاول إبراز فضله على مجايليه في الحقول العلمية كالأنساب والأمثال والمعاجم بالرغم من أحقيته، أما الرحلات فقد دانت له بصورة تلقائية إذ لا ينافسه فيها أحد من القدامى والمحدثين.
عفة القول
عرف الشيخ بهدوئه الجميل؛ فلا ينفعل ولا يفتعل ولا يمكن أن تصدر منه إساءةٌ قولية أو فعلية، وحين يرى أو يسمع ما لا يعجبه فإنه يلجأ إلى التجاهل، وربما كرر المقولة من ظن الشيخَ لم يسمعها فأشار إليه بيده أو بصوت خفيض ألا داعي لتكرارها، وانتقد أحدهم بعض طلاب العلم لسلوك معين رآه فيهم فأعرض عنه الشيخ ولم يعلق واستأنف حديثه دون التفات إليه، ونعلم عن معينين لا يرضى الشيخ عن صنيعهم لكنه لا يتعرض إليهم بانتقاد ظاهر أو مبطن ، وقارئ سيرته الذاتية ( سبعون عامًا في الوظيفة ) يدرك هذا الجانب بوضوح.
الإنصات
يعجب المنتظمون في مجلس الشيخ من مقدرته الفائقة على الإنصات التام قبل الإجابة عن استفهام يطرح أو تعليق يطرأ، بل إنه كثيرًا ما يدعو غيره للحديث في مجلسه الذي يؤمه الناس حرصًا على الأخذ عنه لا عن سواه.
التواضع
صفة يجمع من عرف الشيخ على اتسامه بها دون ادعاء أو تكلف؛ فهو رجل بسيط حيي لبق طيب يبدأُ الآخرين بالسلام ويقوم من مقعده تحيةً لهم ويعتذر عن إثقاله عليهم بحضورهم مجلسه مع أنهم من اختاروا راغبين ومستفيدين، والفضل له في تخصيص وقته وخدمات بيته من أجلهم ولصالحهم، ولا ينسى - حين يُهدى إليه كتاب – الثناء على صاحبه، وربما كتب عنه ودفع به للنشر حفزًا له، مثلما يشير بامتنان إلى من زوده بمعلومة أو أجاب عن مسألة، ولا يتردد في القول: إنه لم يكن يعلم أو أنه لا يدري، كما يعزو فضل ترحاله في أقطار الأرض إلى عمله الرسمي في رابطة العالم الإسلامي وهيئة الدعوة الإسلامية.
التفقد
بالرغم من انشغال الشيخ ببحوثه ومقالاته ومشروعاته العلمية والتزاماتهالاجتماعية فإنه يعرف مرتادي مجلسه واحدًا واحدًا ويتفقدهم ويسأل عن غائبهم ويهاتفه إذا أحس أنه قد أطال غيبته، مثلما يعتني بأمورهم الصحية وشؤونهم العامة ويتابعها معهم، وأكثر من هذا فإنه يعمل على إصدار كتاب يضم سير جلساء منتداه المنتظمين تقديرًا لهم، وهو ما لم يسبقه إليه منتدى آخر.
الكرم
يبدأ الشيخ مجلسه بتمرير دهن العود عليهم لتطييبهم به، كما يقدم لهم التمر والقهوة والشاي والمعجنات، والحنيني أيام الشتاء، كما يستضيف أصفياءه وقاصديه في جلسات خاصة يصحبها طعام الغداء أو العشاء ، وعُرف عنه إنفاقه في سبل الخير بما لا يَحسن التوسع فيه، وبذلُه نفسَه لطلبة العلم ونفيسَه للبحث في مجاهله.
الوعي
مع انتساب الشيخ إلى المؤسسة الدينية بدءًا من عمله قيمًا على مكتبة بريدة العامة وملازمته لسماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله وانضمامه إلى رئاسة الكليات والمعاهد العلمية تحت إدارة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم وما تلا ذلك من أعمال مشابهة فقد امتاز الشيخ بسعة أفق جعلته أول باحث تأصيلي في «الأمثال العامية» بالرغم من أن المؤسسات الدينية تنتصر للفصحى وتتجاهل العامية حتى في البحث فاستطاع الشيخ دراستها بشكل لا يأذن للعمل البحثي بتشجيع العامية وانطلق من ذلك نحو دراسة أصولها الفصيحة، كما أنه لم ير بأسًا في التصوير الضوئي وارتداء الملابس الأجنبية ، وهو ما مثل وعيًا متجاوزًا قبل أكثر من نصف قرن، وتميل آراؤه الفقهية إلى إدراك المتغيرات والنوازل والتمشي بما يتطلبانه من مرونة فكرية.
الحزم
لا يقبل الشيخ مساومةً على مبادئه كما يسعى إلى تطبيق النظام وفق متطلباته، وله في ذلك حكايات منشورة وشفاهية، ويلمسه مرتادو مجلسه في انضباط الوقت الذي تبدأ به الجلسة وتنتهي ويتوزع فيها الحوار عبرطريقته الهادئة وأسلوبه المهذب.
الذاكرة
يتمتع الشيخ بحافظة نادرة تستعيد وتستدعي - بحضور وسرعة لافتتين - النصوص والشخوص؛ فكما نجد المعلومات جاهزة في ذهنه وقت طلبها فإنه يعرف الوجوه والأسماء والألقاب بحيوية يعز توافرُها في الأكثرين.
خاتمة
يندر من تجتمع في شخصيته ونصوصه التميز والمبادرة والجدية والمرجعية كما هي لدى شيخنا العلامة محمد بن ناصر العبودي حفظه الله، ولعل هذه الورقة تفتتح دراسات تخصصيةً فاحصةً ناقدةً لمؤلفات الشيخ المتنوعة، مثلما ترسم أنموذجًا فريدًا في جمال الخُلق وجميل التعامل؛ داعين له بطول العمر وسداد العمل، والله المستعان.
وفي مشاركة بعنوان: (الرحالة الشيخ محمد العبودي: محفزات النبوغ) للدكتور عبداللطيف بن محمد الحميد من قسم التاريخ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، يتناول عرضاً موجزاً لسيرة العلامة الموسوعي المعاصر الشيخ محمد بن ناصر العبودي.. مع التركيز على جانب الرحلات التي قام بها عبر قارات العالم منذ عام 1384هـ/1964م إلى عام 1429هـ/2008م، ودوَّن خلالها أكثر من مئة وسبعين مؤلفاً مطبوعاً ومخطوطاً وثقت رحلاته وأبانت جهوده المثمرة في خدمة العالم الإسلامي، إلى جانب خمسين مؤلفاً في جانب الفنون الأخرى.
ويحاول البحث الإجابة على تساؤلات عديدة، منها ما يتعلق بالمحفزات التي دفعت العبودي للقيام برحلاته الشاقة والممتعة إلى عشرات الأقطار لمدة أربعين عاماً.. ومنها ما يتعلق بتتبع المنهجية التي اتبعها في تدوين رحلاته وتوثيق معلوماته.
وقد جادت المملكة العربية السعودية منذ نهضتها المباركة على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بعدد من العلماء الموسوعيين.. برز منهم في مجال البلدانيات كوكبة من الرواد، منهم البليهد، والجاسر، وابن خميس، وابن جنيدل، والعقيلي، والبلادي، وابن عقيل وغيرهم.
بيد أن الشيخ محمد العبودي قد تجاوز المحلية إلى العالمية.. واقتفى آثار الرحالة المسلمين الأوائل مثل ابن فضلان، وابن جبير، وابن بطوطة وغيرهم.
إذ طاف العبودي بلاد العالم في زمن تطور وسائل المواصلات بالطائرة والسيارة والقطار.
وقد عرف الشيخ العبودي في مسيرته المباركة داعيةً ورحالةً ومؤرخاً وبلدانياً ونسابةً ولغوياً وأديباً وشاعراً. وما يهمنا في هذا البحث هو تقصي المحفزات التي ساعدت الشيخ على بلورة مشروع رحلاته وكان لها أبلغ الأثر في دخول العبودي عالم الرحالين:
1 - المحفز الأسري:
كانت لأسرة العبودي صلة مصاهرة وقربى وتتلمذ وجوار بالبيوتات العلمية في بريدة كآل سيف وآل سليم وآل العمري وآل سالم وآل عضيب وغيرهم. وكان والد العبودي رجلاً شهماً يحفظ أخبار العرب وقصصهم وعلى معرفة دقيقة بالأسر والأنساب وإن كان لا يقرأ ولا يكتب. وقد ذكر الشيخ للباحث أن والده ناصر تُوفي عام 1370هـ وأنه كان المحفز الأول له في حب التاريخ والأنساب. والسبب في ذلك يعود إلى ما أشار إليه الدكتور المشوح في كتابه نقلاً عن الشيخ العبودي:
(ويشير الشيخ محمد إلى أن والده التحق بأحد الكتاتيب آنذاك إلا أنه لم يرق له حال ذلك المعلم، ثم ذهب به والده إلى البادية حيث أمضى سنوات عدة مع شمر بينما كان والده مع عقيل في العراق والشام. كما كان ذا عناية بالأدب، أما جده عبدالرحمن فكان شاعراً عامياً، ويعزو الشيخ محمد عناية والده بالاطلاع ومعرفة الأخبار والعناية بالعلوم الدينية إلى خال والده عبدالرحمن الشيخ المعروف الملا عبدالمحسن بن محمد السيف. وأسرة آل سيف أسرة علمية متقدمة... أما والدته فهي نورة بنت موسى بن عبدالله العضيب، وكانت قارئة للقرآن وللكتب)
2 - المحفز البيئي:
كانت بريدة مركز العقيلات.. وهم جماعة من أهل القصيم وسائر نجد تعيش في العراق والشام ومصر، تجارتهم الرئيسة الإبل والخيل ونقل القوافل عبر الجزيرة العربية وخارجها، ولهم دور بارز في التاريخ المحلي في عصر ما قبل النفط.. وقد وصفت الموسوعة العربية الميسرة بريدة آنذاك بأنها مركز تجاري كبير. ويقال أنها أكبر سوق للإبل في العالم، وأصبحت سير العقيلات وقصصهم ملهمة لأهالي المنطقة في الشجاعة والقوة والكرم والأمانة وحسن التعامل والرحلة في طلب العيش.
وفي بريدة أيضاً استوطنت أسر علمية، وبرز فيها علماء ذوو شهرة واسعة تتلمذ عليهم الشيخ العبودي فكانوا بمنزلة اللبنات التي تأسس عليها علم الشيخ وزاده في الرحلات الدعوية والبلدانية في أقطار العالم الإسلامي.
3 - المحفز الذاتي:
اتصف العبودي بما اتصف به علماء السلف الأوائل من الجدية والهمة وبذل العلم وحسن الخلق، والحلم وسعة الصدر والتواضع وحسن الإنصات مع المحاورين، والعناية بتنظيم الوقت بين أسرته وعمله ورحلاته وتأليف كتبه، والحرص التدوين والتوثيق.
هذه الصفات والسمات الذاتية الموروثة والمكتسبة حفزت العبودي على النجاح والتفوق في مسيرته العلمية والعملية ورحلاته المباركة.. دونما رغبة في الأضواء أو الشهرة أو المزاحمة على الألقاب.
4 - المحفز الدعوي:
اقتضى عمل الشيخ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وفي رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وخلفيته الشرعية والدعوية وعشقه للسفر والترحال وميله للتوثيق والتدوين.. اقتضى ذلك كله ممارسته الدائمة للدعوة إلى الله والسعي لتفقد أحوال المسلمين والعناية بشئونهم. وقد ساعده في ذلك تشجيع ودعم المسئولين في المملكة العربية السعودية ملوكاً وعلماء وثقتهم بما يقوم به.. وقد ذكر العلامة العبودي في مقدمات كتبه وفي ثنايا مروياته ومشاهداته الكثير من شواهد المساندة والدعم. وخاصة أنه كان دقيقاً في تصوير حال المسلمين ومدى حاجاتهم في مدوناته، الأمر الذي أسهم في تبني طروحاته وتوصياته.
ومما جاء في البحث العلمي الذي سيقدمه المشوح بعنوان: (الرحلات المغاربية للعلامة الشيخ محمد بن ناصر العبودي) أكثر من مائة وخمسين كتابا مطبوعاً في الرحلات فقط إضافة إلى أكثر من أربعين كتاباً في الرحلات أيضاً لم يزل مخطوطا، إنه عميد الرحالين الذي لم يترك زاوية من العالم فضلاً عن دولة ومملكة إلا وطئتها قدماه.
استهواه ابن بطوطة واستحضر تفاصيل ابن فضلان وحفظ وثائق ابن جبير.
فقيه وأديب وشاعر ومثقف.
لا يستسلم لرأي مجرد أو مقولة منقولة بلا تروي أو تحقق يعشق المناقشة والمساءلة صبور عند الترحال عاشق للمعرفة أينما كانت.
لقد جال هذا العلاَّمة العالم ببصيرة نافذة، وعقل راجح، وفؤاد حيٍّ، وعمق ديني راشد، وحسٍّ حضاري مفتوح بأن ذلك في شخصه وبدا على مُحَيَّاه.
ولم يكن أنانيًّا في حياته وتجاربه، بل صاغ ذلك في كتبه، ودَوَّنَ ما لَقِيَهُ في سطور أوراقه ومخطوطاته، حتى اجتمعَتْ فيه علومٌ وفنون ومعارف شَتَّى، كلها تتجاذب العلاَّمة العبودي إلى كنفها ومحيطها.
وقد نال العلاَّمة العبودي من تلك المعارف حظَّه ومبتغاه، فأبصرَتْ عيناه حضارات الأمم، ووطئت قدماه حواضرَ العالم القديم والحديث، فلم يبعده ذلك عن فكْر أُمَّته وتراثها، ولم يحجبه عن مكامن مجدها وحضارتها الخالدة، بل قد أصاب من تلك الحضارة خيرها، وارتوى على أثر ذلك من مَعِينِ أمته الصافي.
وإني أحسب هذه الندوة المباركة محاولة لِلَمِّ أطراف الحديث عن هذا الموسوعي الكبير الذي ما ندَّ عنه شبر من الأرض إلا وطئه، فجاس الديار، وسعى في البلدان يصف ويعاين ويقدم الخبر، وينتقد المشهد، ويشخص الداء، ويسقي الدواء، ممتطيًا صهوة الصبر والحلم والأناة في خلق فريد صار فيه أبهى من الروض النضير.
والمغرب محطة عربية حضارية وعلمية لم يكن مروره بها كغيرها من الدول العربية الأخرى .
فحط رحاله وأرخى قلمه وامتدت قدماه إلى أطراف المغرب ونواحيه متجولاً ومدوناً على خطى الرحالة المغاربة الذين سار على نهجهم وأعجب بسيرهم.
لم يكن من طريقة العلامة العبودي أن يكتب ويدون رحلاته إلى الدول العربية لكن المغرب كانت بوصلة هامة في مسيرة العبودي الرحالة حيث كانت سبباً في تغيُّر رأي لديه مضى عليه أكثر من خمسين عاماً
حيث يقول كاشفاً متحدثا عن سبب كتابته عن رحلته للمغرب ونشرها
«وكان بعض أصدقائي والذين يحسنون الظن بي يتساءلون: لماذا لم تكتب عن البلدان العربية؟ فكنت أقول لهم ما أقوله لنفسي، وهو أن هذه البلدان بمثابة المنزل المعروف لهم، فماذا أجد فيها مما أعتقد أنهم لا يعرفونه وأنهم في شوق لمعرفته؟
وذلك رغم كون البلدان العربية واسعة النواحي، شاسعة المسافات، متعددة العادات، مختلفة الفصول والجواء، بل متشعبة المظاهر والمناظر، غير أن مجرد كونها عربية جعلني أحجم عن الكتابة فيها لا لكون ذلك في حد ذاته مانعاً من الكتابة، ولكن لكونها بلادي وبلاد قرائي.
إلا أنني الآن وقد مضى على أول كتاب في الرحلات عشرون عاماً أحجمت فيها عن الكتابة في الرحلات إلى البلدان العربية أجدني قد تغير رأيي بحيث سألت نفسي: عما إذا كانت ا لمعلومات التي يعرفها القراء من العرب عن موريتانيا مثلاً هي أكثر مما يعرفونه عن أوروبا وأمريكا؟
وعما إذا كانت ظفار في جنوب عمان أو جزيرة (سقطرة) في جنوب اليمن هما أسعد حظاً في الشهرة عند قراء العربية من مدينة نيروبي مثلاً أو جزيرة (سومطرة) في إندونيسيا التي هي على وزن (سقطرة) الجزيرة العربية اليمانية الجنوبية.
وقد كثرت الأسئلة عن نصيب أجزاء مختلفة من البلدان العربية من معرفة الإخوة العرب، فكانت الإجابة في كل الأقوال، أو في أكثر الأحوال هي بالنفي على كل سؤال من هذه الأسئلة.
فقلت لنفسي: ومعذرة من تكرار هذه الكلمة-: ما دام الأمر كما ذكر لماذا لا أقدم إلى قرائي الكرام الذين أحاطوا كتاباتي بالاهتمام شيئاً عن حال أو أحوال من أحوال البلدان العربية التي نعتبرها عند جمهورهم من البلاد القصية، التي لا يعرفون عنها شيئاً ذا أهمية من الأحوال الاجتماعية أو اللهجات اللغوية أو الظروف المحلية، وإن لم يقلل ذلك من قيمتها الحقيقية، فهي هي بلادنا العربية العزيزة سوءا أكانت قريبة أم قصية، فاللغة العربية الحبيبة تجمعنا، والدين الإسلامي الحنيف يشدنا إلى أن نشد أزر إخواننا لنكون بذلك في الحقيقة نشد أزرنا.
والثقافة القديمة المشتركة التي لا تزال هي الدعامة القوية لحياتنا هي توحدنا ولو بالعواطف رغم العواصف، والعواطف التي هي الآلام والآمال المشتركة هي أعظم الروابط لأنها التي لا تقوم على نفع مادي، أو عامل اقتصادي، أو لسبب عارض من الأسباب التي تزول بزواله، وتضعف بضعفه كما قال أسلافنا العرب القدماء: ( من أحبك لشيء أبغضك عند فقده).
ومع ذلك لكيلا نكون كمن يسعى في الحصول على حاصل أو ينفق وقته وجهده في غير طائل فإننا قصرنا الكلام على البلدان العربية وقصة الرحلات فيها إلى الأماكن البعيدة، أو الأركان من الدول البعيدة.
ولذلك أسميت ما كتبته باسم يدل على ذلك وهو (الإشراف، على أطراف من المغرب العربي).
لقد كان كتابه «الإشراف على أطراف من المغرب العربي» هو كتابه الأول عن المغرب في أكثر مائة وثمانين صفحة» وكعادة العبودي المحقق ذا النفس العلمي الدقيق وكأنه شعر بأن أحداً من القراء سوف يتساءل عن كلمة الأطراف» أو أنها تحمل دلالة على نقص في القدر.
فيعلل ذلك بتعليل علمي رائع فيقول
وكلمة الأطراف لا تدل على نقص في القدر، أو انحطاط في المنزلة، ولكن طبيعة الأطراف في النواحي والمسافات أن تكون أقل حظاً في المعلومات.
وإلاَّ فإن الأطراف في اتخاذها منازل هي مفضلة عند بعض الرؤساء من أسلافنا العرب القدماء لذلك جاء في أمثالهم القديمة (الأطراف، منازل الأشراف).
وأياً كان الأمر فإن الهدف واضح، وليس المعول على التسمية وإنما المعول على الحقيقة، وقديماً قال أسلافنا من الأصوليين (لا مشاحة في الاصطلاح).
ولقد بدأت ببلد من بلداننا العربية العزيزة تصدق عليه هذه التسمية فهو طرف من أطراف البلدان العربية وهو عزيز عليها، بل هو يحمل عنها أعباء القيام بنشر الثقافة العربية ورعايتها في غرب إفريقية مطلوب منه ذلك كما تحمل الدعامة الهامة من البناء في الركن الثقيل البارز فيها ألا وهو المغرب الأقصى أو المملكة المغربية.
لقد ابتدأ الحديث بالمغرب عن مراكش الحمراء
فعقد فصلاً صدره بقوله «من ميزة المغرب وهو المملكة المغربية أن كل مدينة من مدنه لها خصوصية تتميز بها عن المدن الأخرى، وفيها من المرافق كالقصور والقاعات و الفنادق ما يمكن أن يعقد فيها مؤتمر دولي، إضافة إلى السمة المشتركة بين المدن المغربية كلها وهي المحافظة على الآثار القديمة بعدم المساس بها إلاَّ بترميم ما يحتاج إلى ترميم منها، وذلك بإعادة الطابع الذي كان عليه قبل الترميم.
ولذلك بقيت المغرب أغنى الدول العربية بالآثار والمباني الإسلامية الباقية على ما كانت عليه، ومنها مثلاً الأسوار والبوابات، بل المدن القديمة التي بقيت على حالها مع احتفاظها بطابعها القديم وسط الأبنية والأحياء التي حدثت فيها، ومن ذلك مثلاً مدينة فاس القديمة التي لا تستطيع السيارات الدخول إلى أزقتها القديمة بسبب ضيقها وقل مثل ذلك عن تطوان والرباط
ثم عقد فصلا عن بداية الرحلة والوصول إلى الدار البيضاء ثم سفره مباشرة إلى الرباط وهنا يشير العبودي إلى متعة أخرى لا تفارقه في رحلاته وهو السفر والترحال بالسيارة مهما بلغت المشقة حتى يتسنى له الرؤية الدقيقة للمناظر والمشاهد ومخالطة الناس والاستماع إليهم وها وهو يقول
«اخترت السفر بالسيارة على السفر بالطائرة لأرى من الطريق بالسيارة ما لا أستطيع رؤيته بالطائرة، و اخترت السفر بحافلة عامة على السفر بسيارة صغيرة حتى اختلط بالإخوة المغاربة وأقف في محطات الحافلة العديدة»
ثم يستمر في سرد المشاهد الجميلة مروراً بالحقول الواسعة والحمضيات والنحيل.
والعبودي قارئ نهم للنصوص العربية ويدونه في رحلاته الكثير وينقل العديد من النصوص ولا يقف جامداً أمامها، بل يناقش ويسأل فيأتي على كل ما كتب عن أي ناحية أو بلد يصل إليه.