عبد الاله بن سعود السعدون ">
مع آخر يوم عمل يقضيه المرشح للتقاعد يشرع للملمة أوراقه الخاصة من مكتبه الذي لازمه سنين حياته العملية الطويلة الممثلة لمرحلة حياة الشباب والنضوج والعطاء بكل ذكرياته الحلوة والمرة. لتبدأ المرحلة المجهولة والقلقلة ومعها تبدأ التأثيرات البيولوجية والنفسية على أيامه المقبلة. التي عندنا في الشرق العربي نوصف من دخل محيط هذه الحياة الجافة (إحالته على التقاعد).
ومع صباح اليوم الأول تقاعد تبدأ حالة الذهول والكآبة والنسيان ذهب المنصب والمكتب وتجمد المورد المالي والامتيازات من بدل السكن والتنقل وحتى التأمين الصحي أوقف تمتعه بخدماتها والأهم من كل ذلك بقي وحيداً وابتعد عنه كل منافقي المنصب. وخرج من لائحة العمل المتطورة الخاصة بالمؤسسة التي كان يعمل بها بالأمس ليدخل مجبراً لمحيط غريب عليه، التقاعد ذلك النظام القديم الذي كتب في القرن التاسع عشر وبقي في سبات أهل الكهف. ليومنا هذا.
في خليجنا العربي المتقاعد مدنياً كان أم عسكرياً يعيش حالة من النسيان والكآبة بعيداً عن حركة المجتمع الذي يعيش بداخله... ففي حالة متقاعد عسكري برتبة معينة منذ خمسة عشر عاماً يتقاضى ابنه اليوم حين بلوغه لرتبة والده ضعفين ونصف أكثر من دخل والده التقاعدي... والعامل المدني في الشركات الخاصة الذي يخضع لنظام التأمينات الاجتماعية تجمد مرتبه منذ إحالته للتقاعد حتى يومنا هذا وكأن الظروف المعاشية لاقتصادنا قد تجمدت معاه..
مما يزيد الطين بلة أن الأنظمة المالية والبنكية تزيد عليه همومه وتضيق عليه دائرة الحاجة والعوز المادي وتدفعه قسراً لطلب المعونة المقلة لكرامته كمواطن له حقوق وعليه واجبات نحو مجتمعه، مثلاً يتقدم المتقاعد كغيره من أشقائه المواطنين للبنوك التجارية طالباً قرضاً تمويلياً ليعلم ابنه أو لترميم بيته أو لعلاجه في المستشفيات من آلام الأمراض التي رافقته بشوق منذ الأيام الأولى لدخوله في دائرة التقاعد... ويأتيه الرد القاسي من إدارة البنك بالاعتذار عن منحه القرض النقدي لتعديه سن الخامسة والستين التي حددها النظام النقدي وذلك لخطورة عملية استعادة أقساط القرض لأن المواطن المتقاعد أقرب للقبر من الحياة.. حسب تعليمات مؤسسات النقد والبنوك المركزية الخليجية.. وأترك للمسؤولين في هذه المؤسسات إدراك التأثير القاسي والمؤثر على نفسية المتقاعد ونسوا أن الأعمار بيد الله سبحانه.
والمصيبة الأخرى التي تواجه المواطن المتقاعد امتناع شركات التأمين الطبي من شموله ببوليصة التأمين للعلاج في المستوصفات والمستشفيات المتعاونة معها وسبب هذا الهروب من المواطن المتقاعد بلوغه لآخر العمر حسب تصنيفهم وهي المرحلة التي يحتاج بها الشيخ المتقاعد للعناية الصحية لتواطن الأمراض المزمنة في جسده وأشهرها الثلاثي القاتل السكر والضغط والكولسترول. والمصيبة الأكبر أن مؤسسات التقاعد هذه تملك استثمارات ضخمة في مستشفيات خاصة بها يحرم المستفيد التقاعدي من خدماتها.
في الدول التي تهتم بمواطنيها المتقاعدين ومثالها حسب الذكر وليس الحصر كاليابان وسنغافورة والسويد تقدم للمتقاعد امتيازات أكثر من الشباب العاملين مثل إعفاء مرتبه التقاعدي من الضرائب مع بطاقة تأمين صحي شاملة ومدى الحياة لكل المؤسسات الصحية في الدولة مع خصم من قيمة تذاكر السفر الجوية والبحرية والبرية. والتزام المؤسسة التي كان يعمل بها بتشغيله بمسمى مستشار ويخصص له مكتب مؤثث ويشارك لساعتين يومياً في كل فعاليات تلك المؤسسة ومنح أبنائه الأفضلية في العمل بالمؤسسة التي تقاعد فيها وفي كل عام تخصص جمعية المتقاعدين رحلة سياحية بالتعاون مع شركات السياحة الوطنية ينضم لها المتقاعد الراغب بالسفر وبأسعار خاصة.. يمنح المتقاعد بطاقة اشتراك في النوادي والمنتجعات الحكومية مجاناً وله (الأفضلية) في الحصول على القروض الشخصية وبدون فوائد.
وقد بالغت الدولة اليابانية في تدليل المتقاعد لحمايته من الكآبة والفراغ بإنشاء جامعة خاصة للمتقاعدين ليقدموا من خلالها دراساتهم وبحوثهم والانخراط بدورات تدريبية من أجل خدمة المجتمع.
أنظمة التقاعد في دول خليجنا العربي بحاجة ماسة لامتداد يد الإصلاح والتطوير لها تمشياً مع نهضة العهود المباركة التي رفعت من حالة الأداء الشامل في المؤسسات الحكومية والخاصة علماً بأن شريحة المتقاعدين تمثل نسبة عالية من مجتمعنا الخليجي ولا أبالغ حين القول إن العائد التقاعدي الشهري لا يسد الاحتياجات الضرورية للعائلة المتوسطة الخليجية وسيف الديون وفواتير الخدمات العامة ينزل جارحاً على رقاب المتقاعدين كل شهر.
ويعيش المتقاعد حالة من الملل والكآبة والضياع تؤدي بتفاعلها المستمر على مستقبل عائلة المتقاعد لارتفاع التقاطعات المستمرة لنمط عيش تلك العائلة بعد بقاء عائلها أطول مدة في البيت ويصف هذه الحالة الاقتصادي الأمريكي مالكوم فوربس ناشر مجلة فوربس الشهيرة ببحث نشر في المجلة بعنوان (التقاعد يقتل أكثر من العمل الشاق).
المواطن المتقاعد يمثل مرحلة تكامل الخبرات المهنية والعلمية لأجيال المستقبل ومن أجل تطوير الأداء الوظيفي للمجتمع بأكمله ولا بد من تفعيل ثقافة الاستفادة من طاقات المتقاعد في مجال خبرته المهنية والعلمية وفي كل المجالات الإنسانية الأخرى فالعمل للمتقاعد علاج وإنتاج ولا بد أن تضع جمعيات المتقاعدين الخليجية استراتيجية خاصة للاستفادة من الطاقات والخبرات المتخزنة لدى المواطن المتقاعد لتحويله من حالة الميت القاعد إلى المواطن المنتج المشارك في دورة خدمات مجتمعه المتعددة ونقله من خانة الاستراحة المترهلة وزاوية النسيان إلى العمل المثمر ولو كان قاسياً ففيه متعة الأداء والواجب الوطني ويجسد ذلك قول مشهور للمفكر البريطاني جورج برنادشو بقوله (الحياة المليئة بالعمل أكثر نفعاً وجدارة بالاحترام من حياة فارغة من أي عمل).
أتمنى على مجالس الشورى في دول خليجنا العربي تحديث نظام التقاعد بشقيه التقاعد الحكومي والتأمينات الاجتماعية بما يتلاءم مع التطور الهائل الذي توليه المجتمعات المتقدمة في العالم للمتقاعد من امتيازات متعددة لإعادة تأهيله لخدمة مجتمعه وإنقاذه من حالة الشعور بأنه مواطن منتهي الصلاحية.