التحقيق هدفه هو تقديم النص الصحيح كما أراده مؤلف الكتاب التراثي. ولكن التعليقات على النص (بتوضيح معاني الألفاظ وشرح المصطلحات والتعريف بالأعلام وتحديد الأماكن الجغرافية) هذه التعليقات هدفها هو توضيح النص وإضاءته ليصبح مفهوماً للقارئ في عصرنا الحالي. فهل نجد توضيحاً صحيحا للمصطلحات والمسميات والأماكن الجغرافية في كل الكتب التراثية المحققة؟.. نقدم هنا أمثلة على تعليقات المحققين، أمثلة على من انتهجوا المنهج السليم، وأخرى على الطريقة الخاطئة.
أول ما كُتِب حول الموضوع كان عبارة عن إرشادات عامة في موضوع التعليق على النص التراثي من قِبَل محققه، وذلك منذ أوائل الكتب التي تم تأليفها في مناهج التحقيق. فمثلاً نقرأ في كتاب «تحقيق النصوص ونشرها»[1] لعبد السلام هارون قوله في الصفحة 81: «لا ريب أن الكتب القديمة، بما تضمنت من معارف قديمة، محتاجة إلى توضيح يخفف ما بها من غموض، ويحمل إلى القارئ الثقة بما يقرأ، والاطمئنان إليه». وفي الصفحة 82 يقول: «ويقتضي التعليق أيضاً التعريف بالأعلام الغامضة أو المشتبهة، وكذلك بالبلدان التي تحتاج إلى تحقيق لفظي أو بلداني».
ثم ظهرت فيما بعد كتب في موضوع مناهج تحقيق النصوص التراثية، أو ما يسميه البعض تحقيق المخطوطات[2]، بعضها لا يضيف شيئاً إلى هذا الموضوع. فنجد في هذه الكتب غير ذات الفائدة قول المؤلف بأن التعريف بالأماكن الجغرافية كالمدن ونحوها يقتضي الرجوع إلى معاجم ومؤلفات تراثية مثل «معجم البلدان» لياقوت الحموي وغيره. وهذا القول يقود إلى خطأ كبير في التحقيق، يؤدي إلى أخطاء جسيمة كما نرى في الأسطر التالية.
لكن هناك كتباً في مناهج التحقيق قيّمة، فيها نجد الإرشادات السليمة في مختلف خطوات التحقيق ومتطلباته. فمن ذلك كتاب «تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل» للدكتور عبد الله عسيلان. فنجده يبيّن المنهج السليم في التعريف بالبلدان قائلاً: «التعريف بالمواضع والأماكن والبلدان: ويقتصر على التعريف بالمغمور منها، ويهمل المشهور مثل مكة والمدينة والقاهرة ودمشق ونحوها. ويكون التعريف مختصراً، لا يتجاوز ثلاثة أسطر، يركّز فيها على أبرز ما يحدد معالم الموضع والبلد، من خلال معاجم البلدان وكتب الجغرافيا القديمة والحديثة. ويراعى في ذلك التحديد الحديث للموضع أو البلد بحسب الواقع اليوم، لا كما يصنع بعض المشتغلين بالتحقيق الذين يقتصرون على التحديد الذي يرد في معاجم البلدان القديمة، لمواضع وأماكن موجودة في أيامنا ضمن نطاق بعض الدول المعروفة. وغالباً ما يكون التحديد غير دقيق، بل عائم لا يشفي غليلاً. فمثلاً نجد ياقوت الحموي في القرن السابع الهجري يقول عن الطائف المدينة المعروفة: «هي على مسيرة يوم للطالع من مكة، ونصف يوم للهابط إلى مكة». ومثل هذا التحديد هل هو دقيق بالنسبة لعصرنا الحاضر؟ وكذلك الشأن قوله عن سمرقند: «بلد معروف من أبنية ذي القرنين، وهي قصبة الصُغد، مبنية على جنوبي وادي الصغد». في حين أن بإمكاننا تعريفها اليوم بقولنا: «هي مدينة تابعة لجمهورية أزبكستان المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي» ونحو ذلك. وهكذا ينبغي ألاّ تغيب عنا في التعريف بالمواضع والبلدان مراعاة التحديد الدقيق بحسب مواقعها في العصر الحاضر، مستعينين إلى جانب معاجم البلدان بكتب الجغرافيا الحديثة»[3].
وفي هذا الصدد يقول خبير التراث المعروف أ.د. عبد الله الغنيم: «وهذه الكتب (أي المعاجم الجغرافية التراثية) التي أصبحت من أركان المكتبة العربية، لم تعد تفي بمتطلبات البحث العلمي المعاصر، ولا يُعوَّل عليها في رسم خريطة توزع عليها تلك الأعلام الجغرافية التاريخية، .. .. .. ثم توقف العمل في دراسة المواضع نحو ثمانية قرون، فلم يظهر بعد ياقوت الحموي من اهتم بهذا الأمر. وتبدلت أمور كثيرة في الجزيرة، وتغيرت مواقع القبائل، وأصبحت الحاجة ماسة إلى إيجاد الصلة بين الماضي والحاضر وتحديث المعلومات المتعلقة بالمواضع»[4].
التعريفات الطريفة
بعض المحققين غير المتمكنين اعتمدوا في تعريف الأماكن والمدن على كتب تراثية، فنجده يخاطب القارئ المعاصر بِلُغة غير مفهومة في زمننا. مثلاً قام أحدهم -في تعليقاته على النص المحقق- بالتعريف بمدن مشهورة مثل حمص ودمياط وسمرقند وبعلبك وحماة وإشبيلية وحلب وصور والموصل ودمشق، وكلها تعاريف لا يفهمها القارئ المعاصر، ولا يستفيد منها شيئاً. انظر مثلاً قوله في تعريف دمشق: «دمشق، البلدة المشهورة، قصبة الشام، وهي جنة الأرض بلا خلاف. قيل: سميت بذلك لأنهم دمشقوا في بنائها أي سارعوا. فتحها المسلمون في رجب سنة 14هـ، بعد حصار ومنازلة بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة. وتبعد عن بعلبك يومين[5]، وطرابلس ثلاثة أيام، وصيدا ثلاثة أيام، وحمص خمسة أيام، وحماة ستة أيام، والقدس ستة أيام، ومصر ثمانية عشر يوماً، وحلب تسعة أيام»[6].
يقول الدكتور بشار عواد معروف: «فانظر أين الفائدة المتوخاة من مثل هذا التعليق البارد الذي ليس له أدنى قيمة أو فائدة»[7]. المشتغلون بالتراث الجغرافي والتاريخ يعرفون معنى تبعد عن مدينة كذا عدد كذا من الأيام. لكن ماذا تعني للقارئ المعاصر الذي ينبغي أن نكلمه بِلُغة عصره؟
وفي أحد هوامش تعليقات المحقق لكتاب «الأخبار الموفقيات» للزبير بن بكار نقرأ: «ينبع: كانت من عمل المدينة على سبع مراحل من المدينة، وكانت تسكنها الأنصار وجهينة وليث. وقيل بين مكة والمدينة. انظر المغانم المطابة ص 440»[8]. فماذا يستفيد القارئ من تعريف لمدينة ينبع يعتمد على لفظة «مراحل» المجهولة عند أغلب القراء؟ وكيف يعرف موقعها بهذا التعريف المتناقض «كانت من عمل المدينة.. وقيل..».
الطريف أن الكتاب (في طبعته المزيدة والمنقحة كما جاء في صفحاته الأولى) صادر عام 1996، وقد تبوأت مدينة ينبع الصناعية في هذا الوقت أوج شهرتها. بل لو كلف المحقق على نفسه قليلاً بالبحث عما كُتِب عن ينبع بفروعها الثلاثة (ينبع النخل وينبع البحر وينبع الصناعية) لوجد في مكتبات بلدته نفسها كتاب الشيخ حمد الجاسر حول هذه المدينة. نقول هذا عن يقين، لأن الجاسر كان عضواً في المجمع العلمي العراقي في بغداد بلد المحقق. وكتبه متوفرة في المكتبات الجامعية ببيروت، بلد الناشر الطابع. وكتاب عبد الكريم الخطيب «تاريخ ينبع» منشور منذ عام 1985.
وفي بيروت ناشر يأخذ الكتب التراثية المحققة تحقيقاً جيّداً، فيعيد طباعتها بإعادة صف الأحرف في المطبعة، بدلاً من تصويرها، ويكتب على الغلاف «تحقيق فلان». فيخرج الكتاب مشوهاً أبعد ما يكون عن التحقيق. فمن ذلك ما ورد في نشرة هذه الدار من كتاب «السلوك لمعرفة دول الملوك» للمقريزي، في تعليقات وشروح المحقق على النص: «بيروت: بالفتح ثم السكون وضم الراء سكون الواو والتاء فوقها نقطتان. مدينة مشهورة على ساحل بحر الشام، تُعَدّ من أعمال دمشق. بينها وبين صيدا ثلاثة فراسخ. انظر معجم البلدان والروض المعطار وصبح الأعشى»[9]. هنا يتساءل القارئ: هل هي فعلاً من أعمال أو محافظات دمشق حالياً؟ وماذا تعني فراسخ؟ ثم إذا كانت مشهورة فلماذا التعريف بها بهذا التعريف المبهم الذي لا فائدة منه؟
وفي نفس الصفحة نقرأ: «قبرص أو قبرس: جزيرة على البحر الشامي كبيرة القطر، مقدارها ستة عشر يوماً، ومن قبرص إلى طرابلس الشام مجريان. انظر معجم البلدان والروض المعطار ونزهة المشتاق»[10]. نجزم بأن المحقق عديم الاطلاع على الكتب والتقارير العلمية المؤلفة حول قواعد التحقيق. لأنها جميعاً تنص على عدم التعريف بالأماكن المشهورة. بينما هو يعرّف بيروت وقبرص بهذين التعريفين اللذين لا يفهمهما أغلب القراء.
وفي كتاب صادر عن الناشر المحترم «دار الغرب الإسلامي» نقرأ في تعليقات المحقق: «أيلة: مدينة على ساحل بحر قلزم، مما يلي الشام، وقيل في آخر الحجاز وأول الشام. وقال أبو زيد: أيلة مدينة صغيرة عامرة بها زرع يسير (معجم البلدان: أيلة)» [11]. فماذا نستفيد من هذا التعريف؟ وكم من القراء العاديين يعرف بحر قلزم؟
وبالرغم من أنه قام بتعريف أيلة بهذا التعريف المطلسم، نجده يعيد تعريفها بشكل مختلف قائلاً: «أيلة: إيلياء، مدينة صغيرة عامرة بها زرع يسير. وهي مدينة لليهود. وقال أبو عبيدة: أيلة مدينة بين الفسطاط ومكة على شاطئ بحر القلزم، تُعَدّ من بلاد الشام. (ياقوت: أيلة)»[12]. وهنا يزيد المحقق إلى غموض التعليق أخطاء: فمدينة إيلياء هي القدس، وليست هي أيلة. وأيلة كانت من محطات الحجاج القادمين من مصر وغيرها من بلدان أفريقيا، ولم تكن لليهود. ولو سأل المحقق أهل الأردن -حيث يقيم- لعرف أن أيلة هي البلدة القديمة لمدينة العقبة المعروفة، على رأس خليج العقبة المسمى باسمها.
وفي نفس الكتاب نقرأ للمحقق: «الأبواء: قرية من أعمال الفُرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. وقيل: الأبواء جبل على يمين آرة، ويمين الطريق للمصعد إلى مكة من المدينة. وقال السكري: الأبواء جبل شامخ مرتفع ليس عليه شيء من النبات غير الخزم والبشام، وهو لخزاعة وضمرة (ياقوت: الأبواء)»[13]. والذي يعرف المنطقة أو يقرأ المراجع التي كتبها الباحثون حول مناطق الحجاز[14] يعرف أن الأبواء تتبع محافظة رابغ بمنطقة مكة المكرمة والفرع[15] تابعة لمنطقة المدينة المنورة. ولم يفِدنا المحقق بما هي «آرة». وخزاعة وضمرة قبيلتان تفرقت فروعها اليوم في أماكن بعيدة عن الأبواء. وحاليا سكان الأبواء من فروع قبيلة حرب (مثل اليوبي والمحمدي والشيخ) وآل النعماني والسادة.
ويطول بنا الحديث لو ذكرنا التعاريف الغامضة أو الطريفة في غرابتها، في هذا الكتاب وفي غيره.
أمثلة على التعريف الجيد
للأماكن والأعلام الجغرافية
من الكتب المحققة تحقيقاً جيداً كتاب «تاريخ داريا»، بتحقيق المؤرخ سعيد الأفغاني، رحمه الله. وفيه يعرّف بالبلدان، ويحدّد مكانها، معتمداً على كتب البلدان، وبخاصة معجم البلدان لياقوت الحموي وغوطة دمشق لمحمد كرد علي. بل إنه يضيف إلى ذلك ما هي عليه اليوم[16]، كقوله في ص96 عن (أذرعات): «مركز محافظة حوران اليوم وقد خففت في اللفظ مع مرور الزمن إلى (درعا) لكن الحوارنيين يلفظونها (درعات) تقع إلى الجنوب من دمشق»[17].
ومن الكتب التي بذلت فيها العناية الفائقة تحقيق كتاب «المقتبس» لابن حيّان القرطبي، بتحقيق د. محمود علي مكي رحمه الله. نلخص جهد المحقق[18] في الآتي:
-1- التحقق من المواضع الجغرافية التي يرد كثير منها محرَّفًا أو بغير إعجام، وتحديد أماكنها في الوقت الحاضر، في كل من إسبانيا والبرتغال.
-2- ما فعله المحقق لم يكن تعليقًا على الأعلام الجغرافية من قبيل التعريف التقليدي، مما نطالعه في عمل غيره من المحققين، من التعريف الوصفي المنقول عن كتب التراث الجغرافية بنصه، كما مرّ بنا في الأسطر السابقة. وإنما كان تعليقاً ينحو فيه المحقق منحى العلماء الجغرافيين «في توضيح صورة الجغرافيا التاريخية للمنطقة محل البحث، وفي تحديد مواقع المدن: الدارس منها والمستحدث، وتحقيق الأسماء الجغرافية القديمة المواضع، خصوصاً أنّ هناك كثيرًا من الأسماء المتشابهة في الرسم, المختلفة في الموضع... وما تسببه للباحث من عقبات, نتيجة للتغيرات التي تطرأ على أسماء المواقع عبر الأزمنة التاريخية، ولاختلاف تهجئتها من أطلس لآخر، بالإضافة إلى أمر أسماء المواضع المتشابهة»[19].
-3- تعليق المحقق يتسم بالتحليل الذي يتناول رصد التغيرات التي طرأت على اسم المَعلَم الجغرافي، ومقارنة اسمه قديمًا بما يطلق عليه حديثًا، وكانت تلك المقارنة على وجهين، أمّا أحدهما فكان بمثابة المقارنة الداخلية، أي رصد التغيرات التي طرأت على الاسم داخل اللغة العربية[20]، والآخر المقارنة الخارجية، أي مقارنة الاسم بنظيره في اللغة الإسبانية الحديثة[ 21].
-4- وهناك منحى آخر من مناحي التعليق على الأعلام الجغرافية المهمة، يتعدّى ما سبق إلى رصد المواقع الجغرافية القديمة، ومحاولة التثبُّت من مواقعها التي آلت إليها اليوم، وكذلك تحديد معالمها، على الرغم من اندثار الكثير منها[22].
-5- كذلك تبدو عناية المحقق بالتعليق على الأعلام الجغرافية، في جانب آخر غير موضوعي، يتعلق بالكم الإحصائي، حيث تجاوزت التعليقات الخاصة بالأعلام الجغرافية نسبة (10%) من إجمالي تعليقات المحقق، حيث إنّ مجموع التعليقات في قسمي الكتاب (427تعليقًا)، شغلت التعليقات الخاصة بالأعلام الجغرافية منها (48 تعليقًا)، مما يوضح عناية المحقق الخاصة بها، ويؤكد من جانب آخر أنّ هناك عددًا آخر غير قليل من أنواع التعليقات المختلفة.
-6- إفراده الأعلام الجغرافية بثلاثة كشافات (فهارس مرتبة على الحروف) اختص أولها بمقدمة الكتاب، والثاني بالكتاب نفسه، بينما جعل الثالث لتعاليق الكتاب[23]، واشتملت الأثبات الثلاثة على (548) عَلَماً جغرافيّاً، مما يتضح معه وجه آخر من أوجه عناية المحقق بالأعلام الجغرافية.
وأبحاث الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- في تحديد المواضع معروفة، كتب عنها الكثير، ويطول الحديث عنها. ونكتفي في هذه العجالة بذكر مرجعين حولها: (1) مقالة الدكتور الغنيم المذكورة في الحاشية 4 من حواشي هذه المقالة، (2) السجل العلمي لندوة الجاسر بالرياض[24]. ومن الكتب التراثية الجليلة التي تم تحقيقها بطريقة منهجية سليمة، وبذل محققها جهوداً عظيمة في كافة عمليات التحقيق، ومن ضمنها شرح المصطلحات والتعريف بالبلدان، هو كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» المعروف بمسمى «خِطط المقريزي»، بتحقيق د. أيمن فؤاد سيد. فهو يذكر الموقع الحالي للبلدة أو القرية، ويفصّل في حالة كون المكان غير مشهور في عصرنا. وأكتفي في هذه العجالة بإحالة القارئ إلى صفحات تعريف المحقق ببلدات «كوم شريك» وغيفا وسَمَنّود وبلبيس و»الصالحية الكبرى» وأيلة وأثريب. فهو يبيّن مكان البلدة، وإلى أية مديرية ومحافظة تنتمي. وإذا كانت مندثرة مثل أيلة يبيّن أن مدينة العقبة الحالية قامت مكانها. ومدينة أثريب التي اندثرت أو اندرست يذكر المحقق أنه لم يبق منها إلا أطلال شمال مدينة بنها. وهو يعتمد في ذلك على المراجع الحديثة، بالإضافة إلى المصادر القديمة مثل ياقوت[25].
ومن الجهود العظيمة كذلك في التحقيق وإخراج الكتاب بشكل مفهوم لدى القارئ المعاصر هو كتاب «رحلة ابن بطوطة» بتحقيق د. عبد الهادي التازي رحمه الله. وهو يذكر منهجه في التعريف بالأماكن بقوله، ضمن حديث مطوّل: «ولقد حاولنا أن نعيش مع حاضرنا ما أمكن، لذلك تجاوزنا (معجم البلدان)[26] في التعريف ببعض المواقع الجغرافية.. كما حاولنا أن نتجاوز التعابير بالفراسخ والأميال والمراحل وما أشبهها إلى التعبير بالكيلومترات والتحديد بخطوط الطول والعرض ما أمكن ذلك»[27]. فالتازي يذكر البلدة، ويحدد مكانها الحالي، ويسرد بعض ذكرياته عنها ويضمن الكتاب صورا للبلدة أو لنقوش ومعالم تاريخية من نفس البلدة. بل ويدرج في كتابه خرائط حديثة توضح مكان كل بلدة. وذلك إضافة إلى ما ذكره الرحالة والجغرافيون القدماء عنها، ويذكر التضارب في بعض أقوالهم، واختيار الصائب منها.
فهو يقول مثلاً عن «المحلة الكبرى»: «كانت منذ تلك الفترة من بين المراكز المهمة للتجارة في النسيج. ومن المهم أن نعرف أن الاقتصادي المصري المعروف طلعت حرب اختار هذا المكان ليؤسس عام 1927 أضخم مصنع متكامل للمنتجات القطنية. زرناه يوم 30-3-1995 رفقة أعضاء مجمع اللغة العربية، فاكتشفنا جانباً هاماً من الجوانب الصناعية والحضارية الكبرى لمصر»[28].
ويقول عن بلدة «حصن الأكراد»: «.. .. وهذه القرية تعرف اليوم بقلعة الحصن، شرقي مدينة زغرتا، مدينة رئيس جمهورية لبنان الراحل رُنيه معوّض»[29]. لكنه في أماكن أخرى يتوقف عن التحديد الحالي للبلدة، بسبب عدم توفر المراجع. فيقول مثلاً عن سرمين: «تقع سرمين على بعد يومين غرب حلب. ويذكر أبو الفداء أنها مدينة تتوفر على عدد من أشجار الزيتون والأشجار»[30]. وهذا التعريف يذكّرنا بالتعريفات الخاطئة التي تشبه الفكاهة، وسبق ذكر بعضها. والواقع هو أن سرمين حالياً بلدة سورية تتبع ناحية سرمين في منطقة مركز إدلب في محافظة إدلب. وإذا كان الإنترنت لم يوجد في عصر المحققين السابقين فإنه لا عذر لأبناء اليوم في عدم البحث فيه، بل وفي المصادر والمراجع المعتمدة المتوفرة من خلاله. وهو البحث الذي لا يتطلب جهداً.
خاتمة
كتب الكثيرون عن التحقيقات السيئة التي تسيء إلى التراث بدلاً من إحيائه وتقديمه حسب المناهج المتفق عليها. ولا يتوقف هذا السيل من الإنتاج الرديء في رأيي المتواضع إلا بحلول عملية، تتبناها جميع الدول العربية. ومن هذه الحلول أن تتبنى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية نظام جودة لتحقيق النصوص التراثية. فيتفق وزراء التعليم والثقافة العرب على إنشاء مجامع علمية في كل دولهم، يكون من مهامها إعطاء شهادة جودة لكل كتاب تراثي يطبع محققاً. فتكون علامة الجودة المعتمدة بارزة على كل طبعة. وبذلك يختار القارئ الكتاب الذي عليه علامة الجودة، ويترك ما سواه.
وحتى يتحقق ذلك فإنني أقترح أن يكثر نشر مراجعات نقدية للكتب سيئة التحقيق، يكتبها الأكفاء المتمكنون، وبخاصة المعروفين منهم. وأن تخصص في كل صحيفة ومجلة صفحات لمراجعات الكتب. فيعلم كل من يتصدى للتحقيق أن النقد له بالمرصاد. فيتقن عمله أو يكف إساءته إلى التراث. هذا ما يحصل في البلدان المتقدمة، كل كتاب يصدر هو عرضة للمراجعة والنقد، وتبيان سلبياته وإيجابياته.
ولعل الأساتذة المتمرسين في التحقيق يطرحون حلولاً أخرى توقف الإساءة الحالية المستمرة إلى التراث.
** ** **
[1] هارون، عبد السلام محمد: تحقيق النصوص ونشرها، القاهرة: مكتبة الخانجي، الطبعة السابعة، 1998.
[2] يقول بعض المتخصصين في التحقيق بأن الصواب هو أن يقال: تحقيق النصوص أو النص، ولا يصح أن يقال: تحقيق المخطوط. لأن المخطوط وعاء يحتوي على النص. وكل من المخطوط والمطبوع أشكال تحمل النص. ولذلك سمى الأستاذ عبد السلام هارون كتابه (تحقيق النصوص ونشرها) ولم يسمه تحقيق المخطوطات. وممن يقول بهذا الدكتور أيمن فؤاد سيد، في محاضراته، المعروض بعضها على اليوتيوب وغيرها من مواقع الشبكة.
[3] عسيلان، عبد الله عبد الرحيم: تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1415هـ 1994م. ص 222.
[4] الغنيم، عبد الله يوسف: «المسيرة والعطاء»، مجلة «العربي»، العدد 505، ديسمبر 2000، ضمن الملف الخاص «حمد الجاسر».
[5] كذا. والصواب: يومين.
[6] ابن الفرات، محمد بن عبد الرحيم: تاريخ ابن الفرات، البصرة: دار الطباعة الحديثة، 1970، ج2 ص 57. نكتفي هنا بذكر المؤلف والكتاب والناشر، دون ذكر اسم المحقق. وذلك لأن النقد الهادف هو على العمل وليس على شخص من كتبه.
[7] بشار عواد معروف: «ضبط النص والتعليق عليه»، مجلة المجمع العلمي العراقي، مج31 ج4، 1980، الصفحات 246-269. وأعيد طبعه في كتيب مستقل، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1982، 31 صفحة. الاقتباس هنا من صفحة 247 نشرة مجلة المجمع العراقي، صفحة 6 من طبعة بيروت.
[8] الزبير بن بكار، الأخبار الموفقيات، بيروت: عالم الكتب، 1996، ص 238. ولا نذكر هنا اسم المحقق، لنفس السبب السابق ذكره في الحاشية (6).
[9] المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، بيروت: دار الكتب العلمية، 1997، ج3 ص 281.
[10] نفس المصدر والصفحة.
[11] الأفطسي، محمد بن محمد: المجموع اللفيف، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2004، ص 105.
[12] الأفطسي، المصدر السابق، ص 528.
[13] الأفطسي، المصدر السابق، ص 268.
[14] منها مثلاً «معجم معالم الحجاز» و»على طريق الهجرة» و»المعالم الجغرافية في السيرة النبوية»، الكتب الثلاثة لعاتق البلادي (مكة المكرمة: دار مكة للنشر والتوزيع)، وغيرها من المراجع.
[15] في منطقة المدينة المنورة ثلاثة أماكن مختلفة باسم الفـُرع أو الفـَـرع (بالضم أو الفتح). (1)محافظة وادي الفـُرع تقع شمال شرق محافظة رابغ. (2)وقرية الفرع تتبع محافظة العيص التي تقع شمال ينبع. (3)وفـَـرع الردادي (وهو المذكور في المصادر القديمة مثل كتاب السمهودي باسم: فرع المسور) هو قرية بقرب قرية الفقرة الجبلية التي يعرفها سكان منطقة المدينة المنورة ويعتبرونها مصيفاً، وهي بين المدينة المنورة وينبع.
وادي الفـُرع هو المجاور للأبواء، وهو الذي يعنيه ياقوت الحموي بقوله المذكور.
[16] رياض عبد الحميد مراد، «الأفغاني محققاً، من خلال تحقيقه لكتاب تاريخ داريا للخولاني»، مجلة التراث العربي، دمشق، العدد 92 - السنة الثالثة والعشرون - كانون الأول/ ديسمبر 2003.
[17] الخولاني، عبد الجبار بن عبد الله: تاريخ داريا، تحقيق سعيد الأفغاني، دمشق: المجمع العلمي العربي (مجمع اللغة العربية حالياً)، 1950. ص 96.
[18] هذه الأسطر ملخصة من بحث بعنوان «السفر الثاني من كتاب «المقتبس» لابن حيان القرطبي، تحقيق: الدكتور محمود علي مكي، قراءة في المنهج»، بقلم: أحمد سليم غانم، مجلة العرب، السنة/المجلد 42، العدد الأول، رجب شعبان 1427هـ (أغسطس-سبتمبر 2006م)، الصفحات 201-220.
[19] الغنيم، عبد الله يوسف: سجل الزلازل العربي: أحداث الزلازل وآثارها في المصادر العربية، الكويت: الجمعية الجغرافية الكويتية، 2002م، ص10.
[20] محمود علي مكي، تحقيقه لكتاب «المقتبس من أنباء أهل الأندلس» لابن حيان القرطبي، لقاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1995،المقتبس، ص468، التعليق رقم 9؛ ص482، التعليق رقم58.
[21] المصدر السابق، ص476، التعليق رقم28؛ ص477، التعليق رقم33؛ ص485، التعليق رقم63.
[22] نفسه، ص491، ص492، التعليق رقم89؛ ص494، 495، التعليق رقم97.
[23] نفسه، ص609، 637، 643، 682، 687.
[24] السجل العلمي لندوة الشيخ حمد الجاسر، (التي عقدت بالرياض، 4-5 شعبان 1424هـ 31 سبتمبر- 1 أكتوبر 2003م)، الرياض: جامعة الملك سعود، 1425هـ 2004م.
[25] المقريزي، أحمد بن علي: المواعظ والاعتبار في ذكر الخِطط والآثار، تحقيق أيمن فؤاد سيد، لندن: مؤسسة الفرقان، 2002-2004. ج1، حواشي الصفحات 474، 496-498، 501.
[26] من تأليف ياقوت الحموي.
[27] ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق عبد الهادي التازي، الرباط: أكاديمية المملكة المغربية، 1997، ج1 ص 11.
[28] ابن بطوطة بتحقيق التازي، ج1 ص 196.
[29] ابن بطوطة بتحقيق التازي، ج1 ص266.
[30] ابن بطوطة بتحقيق التازي، ج1 ص 272. حتى عندما أصدر التازي ملحقا بعنوان «المستدركات على تحقيقي رحلة ابن بطوطة» (الرباط: وزارة الثقافة، 2004) لم يحدّث معلوماته عن سرمين.
- د. لطف الله قاري