تركي بن رشود الشثري ">
وقبل أن نكمل إنزال فرضيات إيريك هوفر على حركة داعش أؤكد على معنى مهم ألا وهو الشعور العميق لدى كثير من المنتمين لهذه الحركة (سواء الانتماء بالأجساد أم بالأرواح) بأنهم في طريقهم للتخلص من ذواتهم وإلقاء المسؤولية عن عواتقهم والفكاك من مهمة التفكير واتخاذ القرارات ومعافسة شؤون الحياة ولذلك يسهل عليهم صناعة الأحزمة الناسفة ويتداولونها بينهم بيسر بل وذكر لي بعض العائدين من أماكن الصراع أن المنتمين لداعش يتمشون وهم محتزمين بها في الشوارع والمعسكرات في غير أوقات القتال لدرجة الابتذال وهذا يؤكد على أن الحزام الناسف أصبح ذا معنى مجازي ألا وهو الملل من الحياة والرغبة الجادة في التخلص من النفس المأزومة وإعلان القطيعة مع كل ما من شأنه الاتصال بالحياة سواء كان جداً أم هزلا وهذا المدخل البسيط مهم للوقوف على مدى الفجيعة النفسية التي تلف بعض المنضمين لحركة داعش وبعضهم يظن أن هذا هو طريق الشهادة في سبيل الله وما علم أنها أي الشهادة لا تنال إلا بالحياة في سبيل الله أولاً ثم الجهاد الشرعي الصحيح المكتمل الشروط كما جاء عند أهل العلم الكبار المعتبرين لا المتعالمين، نعود لإيريك هوفر حيث يذكر أسبابا تسهل التضحية بالنفس:
فيؤكد على أن ضابط التجنيد العسكري والناشط الشيوعي والداعية التبشيري يصيدون الأسماك من البحيرة نفسها: (بحيرة المحبطين).
وقبل ما نعدد هذه العوامل نعدد مشاعر المحبط عند هوفر وهي كما يلي:
(محتقر للحاضر - قادر على تخيل أشياء غير واقعية - كاره - مستعد للتقليد - سريع التصديق - مستعد لتجربة المستحيل)
من أسباب التضحية بالنفس التماهي مع المجموع يقول باسكال (لماذا نتبع الأكثرية ألأنها أكثر عقلاً ؟ لا بل لأنها أعظم قوة) إذا أردت من إنسان أن يضحي بنفسه فلا بد من سلخه عن هويته الذاتية وعن تميزه يجب بحسب هوفر أن يكف عن كونه جورج أو هانس أو ايفان وأفضل طريقة لذلك هو صهره في الجسم الجماعي وبذلك حتى يتحمل أقسى أنواع التعذيب.
فالشيوعيون والكنسيون تحملوا التعذيب بينما فلول الأروبيين الذين لا ينتمون لمرجعية ايديولوجية جماعية خاروا من أول سوطين.
السبب الثاني الخيال ففي نفوسنا المجردة لا شيء يستحق الموت من أجله ولكن عندما نتصور أنفسنا في مسرحية خيالية يفقد الموت رهبته.
على القائد أن يصور لأتباعه أنهم يشاركون في منظر باهر في طقس من طقوس المسرحية المثيرة , وذلك عن طريق الاستعراضات والمواكب والطقوس والمراسم
حتى أكثر الناس عقلانية يمكن أن يصبح عاطفياً أمام مشهد جماهيري حاشد.
هكذا عرض هوفر لأهمية الخيال في إذكاء الرغبة في الموت وتسهيل العبور والانتقال من الحياة إلى الهلاك , وعندما تدخل الصورة ومقطع الفيديو المشهد فلا تسأل عن غسيل الدماغ وترسيخ أفكار بعد اقتلاع أخرى فالشاب في داخل داعش يكون في حالة من الخدر والتناوم عن الحقائق الصارمة وفي المقابل يكون في حالة من الانجذاب والاستجابة التامة لما توحي به الصورة وما تلقي به من ظلال ويفترضون في هذه الصورة أن تكون مؤثرة مشحونة بالعاطفة ومنقذة غير قابلة للنظر إلا من زاويتهم فهي جاهزة وغير قابلة للتأويل.
أيضاً الصور المجازية لها وقع السحر على الشاب المنضوي تحت لواء جماعة خصوصاً تلك الكلمات التي يعسر القبض على معانيها إنها كلمات ولكن ليست كالكلمات إنها كلمات يتعلقون بها يعبدونها يجترونها يرددونها كلمات كبيرة رنانة لا تقبل النقاش ولا المحاجة ولا السؤال.
ومن أسباب التضحية بالنفس ابتذال العنف في نشرات الأخبار فالعنف مبتذل في الشاشة سواء في الفضائيات أم في أجهزة الجوال مما سبب نوعا من التأقلم والتعايش مع الموت الجماعي المروع ومع تكرار هذه المشاهد أمام مرأى الشاب المراهق يستوي عنده الموت والحياة مما يسهل عليه فكرة تفجير جماعة من الناس أو كما يقال مما يعطي طابع سهولة المرور إلى الفعل العنيف وإن كان هو الضحية والجلاد في آن في مازوخية وسادية يتماشيان جنباً إلى جنب مما هو كامن في نفسه كسمة شخصية تطورت إلى مرض لم يتنبه له من حوله حيث سادت العزلة والانكفاء على الأجهزة وبتر الفرد من الجماعة الأسرية والدراسية والزمالية إلى فضاءات الجماعات المفترضة في عالم مواقع التواصل وهذا يفسر لنا تعجب ذلك الأب المكلوم من أهل الشمال والذي قتل ابنه ابن أخيه فقال لم تظهر عليه آثار العدوانية عدا أنه كان كثير العكوف على جواله ومعتزل عنا.
تزامن هذا في محيطنا العربي الواسع مع ضعف المرجعيات الأسرية وضعف السلطات الدينية والثقافية والسياسية وضعف الثقة بين الشباب وهذه المرجعيات مع تنامي موجة استيقاظ المطالبة بالحقوق وعدم الشرح المبسط لمنهج أهل السنة والجماعة مع الحضور الواضح في الأوساط الشبابية لنقل الصورة بشكل واضح وصريح مع بيان الأخطار المحدقة وعدم مناسبة اللحظة لمثل هذه التجارب غير مأمونة العواقب فالذي لم يتمكن من الصراخ وحمل لافتات المناهضة في الشوارع قد يتسرب إلى داعش لينفس عن ما يعتمل بداخله مما يراه من حقوق أو أمراض أو شهوات أو شبهات أو فتنة أو غيرها.