إن كان الكلام قوّة، فالصمت عقاب. للصمت علاقة باللغة, فهو يسبق الكلام ويليه أيضاً، لكن لم يحظ باهتمام ودراسة وتوثيق في الأدب العربي، فالصمت والصوت مفهومان متناقضان ولكنها متلازمان متجاوران متداخلان، بل أحياناً يتبادلان الوظائف،
يوّلد الصمت هدوءاً وسكينة وسمواً في الروح وتطهيراً للنفس, والصوت من جهة أخرى إن كان هادئاً وناعماً فإنه يسمو بالنفس كذلك، بل ويشفي بعض الأمراض، حتى إن درجة معينة من الصوت كالضجيج الأبيض يستخدم في علاج المصابين بالتوحد من الأطفال، بل إن صوت شلال الماء في الحدائق مثلاً يستخدم لحجب ضجيج الشارع ويؤدي اختلاط أصوات الضجيج إلى ما يشبه الصوت الصامت المريح. وهو يشير إلى مخاطر الضجيج والصوت المرتفع التي تؤدي إلى الصمم وتلوث البيئة وتسبب الأمراض والجنون. أنّ الكتابة الجمالية ذاتها ترتطم غالبا بالعـجز عن الإفضاء وتقف شاخصة في حضرة الصمت.ويرجّح أدباء أن ما بعد الحداثة الأدبية تتطلع للصمت، إلى ذلك النمط من اللا تعبير واللا اتصال الذي يحصل بفقدان الكلمات تلك المعاني التي نتوقع أن تمتلكها وسط معمعة البلبلة اللفظية.
تصبح بلاغة الصمت بلاغة كلامية, إنه وعي الصمت فينا بتلبسنا على الصعيد النفسي والاجتماعي والثقافي والفكري والعاطفي حتى يكشف هو بنفسه عن نفسه ,أن السمة الكبيرة للصمت تكمن في نرجسية المثيرة والمتفتحة, خلاف الكلام الذي يكون مكشوف فالصمت كلام الذات للذات انه يوسع أبعاده وأهدافه خلاف الكلام . أن للصمت أعماقه وملاجئه العصية على الكلام , أن الكلام قد يعرّض صاحبه للمحاسبة والعقاب, ذلك لأن المتكلم ليس سيّد نفسه بل هو ملك للأخر وللغة , فالمجتمع الذي يراقب الكلام هو مجتمع يتدّثر بالصمت، فليس كل قارئ في الأدب يمكنه رصد ظاهرة الصمت عبر النص المكتوب، وليس من السهولة بمكان التقاط حالات الصمت في الإبداع.
لنأخذ على سبيل المثال لوحة الموناليزا رائعة «ليوناردو دا فنشي « اللوحة الصامتة التي استطاعت أن تشحذ من مئات الشعراء والكتّاب كل الكلام .. فنحن منذ قرون نحاول أن نخترق صمتها داخل تقاسيم وجهها ألصدامي ذلك الوجه الذي نحاول أن نخترق عوالمه الخفية, أنه وجه صامت يتحدى من يراه وبهذا يكون الصمت أكبر مثير للإبداع والملهم الأول للكلام.. ألا يحق لنا أن نقول في البدء كان الصمت.. ثم أتى الكلام وإن كل جديد يأتي من خلال الصمت الذي هو تمعّن في الأشياء والبحث عن أسرارها هل استطيع اعتبار الموت اكبر صامت في الوجود فهو ينتشر في كل مكان فهو يواجهنا دون أن يتكلم فهو يبتلع كل ما حوله , أن الموت صمت مطبق تماما . أن إنسان المدينة مجرد من صمته . مثاله الأدبي هو غريغور سامسا في رواية « المسخ « لكافكا التكنولوجيا تأسره وتمنعه من الصمت التأملي, فالمكان في امتداده الروحي، والزمان في إنسانيته معدومان, المدينة تقارع كل صمت ببعثرة سلطة المدينة.
لعلّ أبرز وظيفة للصمت هي الوظيفة البلاغية. ذلك أن الصّمت عُمدة المؤلّـف في التّواصل مع المتلقّي. فهو يدعوه من خلاله إلى إكمال النّقص والمشاركة في ملء الثغرات الخرساء. وكأنّه باستخدامه إياه يصرّح عبر رموزه المسكوت عنه قائلاً: ها هو ما لا أرغب في التلفّظ به أو لا أقدر على التعبير عنه، وعليك أنت أن تقوله عوضا عنّي.
أما الوظيفة الأخرى فهي التعبيرية التي تتعلّق بالأدوات التي يتوسّل بها المؤلّف إلى اختراق حواجـز المنع المنصوبة من حوله من سياسي وديني وجنسي, فالكاتب لا يستطيع قول كلّ شيء ولا تمنحه حرّية التعبير عن المحرّم والعجائبي مثلاً. فـيلجأ عندئذ إلى اتّخاذ الصمت بأشكاله المختلفة مثل النّقص الخطّي والتقنّع والتستّر والتّظاهر والرّياء والتلميح والضّمني والكتابة ذات الفجوات وغيرها خطّة إستراتيجية يحتمي بها من أجهزة الرقابة.
- أحلام الفهمي