ـ2ـ
سوريا/ قرية ما حوصرت المدينة وقطعت الكهرباء والماء والاتصالات، ومضت أيامٌ ثلاثة وأوشك الماء على النفاد من الخزانات، إن افترضنا أنه يمكن الاستغناء عن الكهرباء والاتصالات أيضًا! أمام المنزل، كان أبي يقف ليشهد حركة النزوح ولم يبقَ أحدٌ في الجوار سوانا تقريباً، تردّد أبي هذه المرة أكثر من النزوح الأول، ليس الأمر سهلاً! كان شعوري يشبه شعور أبي، كنت خائفةً من تكرار نزوح العام الأول، ستكون تجربة أمر بها مرتين في ظرف عام، لا أريد أن أفارق الحياة غريبة، بعيدة عن أرضي، بيتي، غرفتي ومكتبتي، لكن ليس هنالك حلٌ آخر.
نزحنا إلى القرية مرةً أخرى، كان العقاب قد طال القرية أيضاً فلا كهرباء ولا اتصالات، ونحن في حر أغسطس ونعاني شحّاً في المياه، وكنتُ كنوعٍ من التوفير أقتصد في وضوئي، فأصلي الصلوات المتعددة بوضوء واحد، كقاضي البصرة «عبدالله بن سوّار»! كان الماء البارد أشبه بسراب، نسمع به كالمعيدي ولا نراه، رغم أن شربه سيكون منعشًا أكثر! كنا نحبس أنفسنا - أختي وأنا- في غرفة/ علبة، نختار عزلتنا وزنزانتنا، وكانت أختي تردد: سيمر صيف وبعده خريف ومن ثم شتاء ونحن هنا في هذا الظلام، في هذا الثقب الأسود!
قضينا هناك أربعة عشر يوماً كانتِ الأيّام الأولى منها أشبه بقضاء وقتك في الجحيم، ولا يهم في أي من طبقات دانتي كان ذلك! وكنت أقضي الوقت بالقراءة مستغلة ضوء النهار المتوفر بكثرة في ذلك القيظ، أو بالنوم توفيرًا لطاقتي، الوفيرة أساسًا، أعني ما الذي قد يفعله نازحٌ «اختار» حبس نفسه في زنزانة سوى ذلك؟ كنا نقضي الوقت أحيانًا في حل الكلمات المتقاطعة أو في تتبّع بعض الإشارات التي نلتقطها من» حلم منتصف ليلة صيف» لنوقن بمرور الأيام أنها لم تكن سوى «أضغاث أحلام»!
سوريا....
«جاري الانتظار...»
ـ3ـ
تركيا/ هاتاي
تبدأ رحلات النزوح بالنسبة إلينا باكراً، في الساعة السادسة والنصف صباحاً كنا في السيارة، نبحث عن أكثر الطرق أماناً بصحبة سائقٍ خبيرٍ، وكان علينا أن نبتعد عن الطرق الرئيسة أو المألوفة، فكان من الطبيعي أن نلجأ إلى الدروب الفرعية بين القرى، عندها اكتشفتُ حقاً أنني لا أعرف الكثير عن بلدي، جغرافياً على الأقل، مررتُ بالقرى التي كنتُ أمر ببعضها كل صباحٍ في طريقي إلى المدرسة التي أعمل بها، وكانت التربة وألوان الحجر على جانبي الطريق تلفت نظري بشدة، خليطٌ من الألوان، التربة تميل إلى اللون الأحمر والحجر بنفسجي تشوبه زرقة، وأشجار الزيتون خضراء داكنة.
استغرقتِ الرحلةُ ثلاثَ ساعاتٍ فقط وصلنا بعدها إلى معبر باب الهوى، ودخلنا بعدها تركيا. كان فندقنا يطل على طريق بعيدٍ يؤدي إلى كسب، وكنت في كل صباحٍ ومساء أيمم وجهي شطره، وكان هو نفسُه قبلة تحيات أمي الصباحية والمسائية المصحوبة بدمعٍ وأسىً ليس بشفيف، كنا نتبادل الزيارات بين الغرفتين، ونتداول في كل شيء بدءًا من الوجبة التي سنتناولها وانتهاء بمدة أقامتنا في هذا المكان وكم ستطول.
كانت «أنطاكية» مدينة متجهّمةً للغاية، وأصحاب المحلات مع كل أدبهم الجم لا يبتسمون لك، يبدو أنهم لا يعرفون المثل الصيني الشهير! وكنت أرى كل شيء عابسًا في تلك المدينة حتى بطّ البحيرة الصغيرة التي كنا نتريض أنا وأمي كل صباح قربها. كان الطعام معضلة أخرى، رغم أن تركيا مشهورة بأطباقها الشهية إلا أن هذه المدينة، ككل مدينة حدودية، لم يكن لها هوية واضحة، تشعر أنها تائهة، فلا هي سورية – رغم حديث أهلها باللهجة السورية- ولا هي بالتركية رغم انتمائها، مائعة ومملة وباهتة حتى مع الطبيعة الجميلة.
مما يلفت النظر سريعًا أنك حين تستقل الحافلات الصغيرة لتصل إلى مركز المدينة، تدخلها منتصب القامة ولا تحتاج أن تحني ظهرك حتى تمس إلى الأرض بأصابعك مثل الغوريلا كما تفعل إن كنت في سوريا، وكانت صديقة أختي تقول: لا بد أنهم يخدعوننا، هذه سيارات لنقل الموتى مضاف إليها مقاعد!
- بثينة الإبراهيم