قلوبُ الأُمّهات ">
(1)
عندما مرضت أمّي..
الحزنُ يتسللُ إلى أعماقي باردًا رماديًّا هذا المساء.
لا يُخففُ وطأته غير الطّرق المفضية إلى أبواب السّماء.
ارتباكٌ قاتمٌ يتغشّاني مذ شكَتْ لي أماني وجنّتي خوفها.
- يا بنتي: الليل طويل، ومخيف.
- وممّ تخافين يا جنّتي؟
- من كلّ شيء، ومن اللاشيء!
كيف يمكنني أن أحسن التّصرف وأماني - الذي تفرّ إليه روحي عند الفزع - خائف؟!
الأسئلة تنتفض في صدري، وتثور.
تتدفق دبقة, تؤذيني لزوجتها, ساخنة، تلسع بلا رحمة، وأنت لا تجيبين، وتكتفين بالخوف علينا فقط.
العتمة تسكنني - يا أمّي - هذا المساء، والشّعور ضرير يتخبّطُ مُحْدثًا انشطارات موجعة تؤلمني...!
تخنقني...!
لم أكن أعلم أنّني كنتُ أنْبشُ بحدسي الصّادق كلّ هذا المآل الذي أُلتِ إليه يا جنّتي.
كان علي أن أصدّق حدسي بعد ذلك الحوار المُتحشرج الذي دار بيننا، فالأمّهات يكذبن لأجلنا أحياناً.
اليوم أدركتُ أنّه ليس لي من شرفة أُطلّ بها على الحياة إلا من خلالك يا جنّة عرضها وطولها الكون، وما وراءه.
كوني بخير لأجلي..
لأجلنا كلّنا.
كوني بخير؛ ليزهر الكون، وتغني الطيور.
كوني بخير، فالحياة بدونك لن تكون بخير.
هاتفيني كي توبخيني كما كنتِ تفعلين.
لن أقول لك: إني كبرت يا أمي.
أبدًا!
هل قلتها لكِ مؤخرًا؟!
أنا أكذب!!
ما زلتُ طفلة لا تحسن التصرف؛ وتحتاج إلى
توجيهك.
لا أتقن الحياة بدونك.
أشياء كثيرة أحتاج إلى أن أخبرك بها!
افتحي عينيكِ..!
لا تنامي!
سننام سويًّا بعد ليلة مليئة بالثرثرة.
في داخلي ثرثرة، لا تصلح إلا لأم!
افتحي عينيكِ!
حتى لا يُطفئ هذا العالم أنواره.
ويصير الليل طويلاً ومخيفًا.
(2)
من أكثر المقاطع التي آلمتني في حادثة الحرم المكي الشريف - على الرغم من أنها كلها مؤلمة - مشهد صوّرته كاميرات الحرم لأمّ، كان ابنها يلعب بجوارها, وهي واقفة في الصحن.
وعندما تهدّم البناء, ونجت من الموت، هرولت هاربة.
لكنها تذكرت ابنها، فعادت رغم الخطر فوجدته، وقد تحوّل إلى أشلاء؛ فقامت تجمعه..
تتنقل بين الأمكنة، وتجمعهُ!!
تجمعه لماذا؟
هل ستعيد وصل الأشلاء؟
هل ستنفُخُ فيه الروح؟
لا..
لكنه قلب الأمّ التي تخاف على أولادها المبيت دون عشاء، فكيف بالموت؟
كيف بمغادرة الروح؟
كيف بمجرد تخيّل أنها لن تراه بعد اليوم؟
لن تضُمَّهُ.. لن تشمّهُ.. لن تقبله بين عينيه إذا مرض
لن تقبل يده إذا تأملته وهو يتحدث.
قلوب الأمهات لا تنسى أمومتها مهما كبر الأبناء، حتى بعد الموت.
مشاعر الأمومة متعبة, مهما كان مستوى الهم القادم من صوب الأبناء، فكيف بهم لو فارقوا حياة من نذر لهم الحياة؟
وضعت قلبي مكان قلبها, وبكيت ابنها, بكيت حزنها القادم وكأني هي!
اللهم اربط على قلبها، وثبّتها، وصبّ السلوان في قلبها صبًّا!
(3)
للأمهاتِ أرواح تُنهك!
وهذا ما لن يعرفه الأبناء!
للأمهات أمنياتٌ وهمومٌ.
أكبرها أن يكون الأبناء بخير.
وأصغرها أن يتناولوا الإفطار
قبل ذهابهم إلى المدرسة!
للأمهاتِ قلوبٌ تشعر بالوحدة.
إذا ما أمعن الأبناء في الانشغال
ورفقة الأصدقاء..
وهذا ما لن يفسره الأبناء
إلا بالتدخل!
للأمهاتِ أسرارٌ صغيرة
عن الحياة والناس
تخفيها عن أبنائها.
لسلامة قلوبهم من الهمّ
تكدرها, وتجعلها عصبيةً!
وهذا ما لن يفسره الأبناء
إلا بالعصبية التي ليس لها مبرر.
(5)
في الخامسة من عمري كنتُ أمارس زعزعة الأمن في قلب والدتي, دون قصد مني!
أنسلّ من بين النوافذ, والأبواب، حتى إذا ما أوصدتها قفزت فوق كلّ سياج غير عابئة بضآلة حجمي.
لقلبها بعد كلّ هذا العمر, وبعد أن صِرتُ أمًّا, أقول: سامحي جهلي, وطيشي يا قلبًا علمني أنّ قُلُوبَ الأمّهات ليست كقلوبِ باقي البشر.
- د. زكية بنت محمّد العتيبي
Zakyah11@gmail.com