عبد العزيز صالح الصالح ">
اللغة هي أحد المؤشرات الحية لأي أمة كانت... والأمم العظيمة هي تأخذ بأسباب التقدم والرقي التي تعكس اللغة فيها صور التطور الحاصل في مجتمعها باعتبارها أحد (المعاملات الأساسية) والقوة الكامنة المتفاعلة والمتضافرة مع الادوات الهامة والأهداف الحضارية التي يقام بها المجتمع الساعي أبداً لتميزه الفكري والإنساني والحضاري.
فقد ساقني حسن الحظ إلى حضور ملتقى رمضاني أسري فإن مجالسنا عادة لا تخلو من العراك والحراك والمماحكة والملاسنة تارة والمجادلة تارة فإن المتحدثين عادة - ينوعون حديثهم ولو من غير شعور بمثابة إشغال الذهن والفكر ومهما بعد المتحدث عن سياق الموضوع إلا إنه سرعان ما يعود إليه وينغمس فيه.
أحياناً يكون النقاش أو الحوار باللغة العربية أو باللغة الأجنبية فإذا تجادل الحضور باللغة الأجنبية فالحجة تقرع بالحجة في اختصار تام وداخل حدود معينة قلَّ أن يكون هناك استطراد وقل أن يكون لعب بالألفاظ وقل أن يكون خروج عن الموضوع وقل أن يكرر المجادل نفس الكلام الذي قاله آنفاً وهكذا إما أن يأتي بحجة جديدة وأفكار جديدة، وإما أن يلزم الصمت وما هي إلا لحظات بسيطة حتى يؤخذ الرأي ويفصل في الأمر تماماً فإذا تجادلنا باللغة العربية فإن الأمر يطول ويطول ويكثر الحديث وكثيراً ما تقرع الحجة لا بأختها وإنما ببنت عمها إذا جاز المثل وكثيراً ما يستطرد من موضوع إلى موضوع بمناسبة أو بدونها وبعد فترة من الانقطاع يعودون إلى ما بدأوا به وتثار مسائل كثيرة لا يفصل في واحدة منها ويقول المجادل الآن ما قال من قبل فيرد عليه صاحبه بمثل مارد من قبل، وتتشعب الآراء والأفكار حتى يصعب حصرها - حتى ينسى المجادل ماذا بدأ به أولاً، ثم يؤخذ الرأي وقد ضاق المتجادلون وسئموا من الجدال وأخذوا بالبحث عما يفصل في الأمر على أي شكل كان.
ولذلك قد يكون الرأي يؤخذ أخيراً شراً - بل قد يكون الرأي الذي قرر لا علاقة له بالمسألة التي أثيرت من قبل!!
ومن خلال ما سمعته من حوار ونقاش وجدال من ذلكم الإخوة المتجادلين أرى أن لكل لغة منطقاً يخالف منطق اللغة الأخرى وأن المسألة - لا ترجع إلى عقلية المتجادلين وحدها فقد يتجادل جماعة كما ذكرت باللغة الأجنبية ثم ترى أنفسهم يتجادلون باللغة العربية فيكونون في الأولى أكثر خطاً وتوفيقا، وليس من الصحيح أن تضع هذا الأمر إلى ضعف هؤلاء في اللغة الأجنبية وتفوقهم باللغة العربية، فهذا القول ينطبق تماماً على من أجادوا اللغتين وحذقوا اللسانين.
والتوضيح في ذلك الأمر قد يبدو غريباً فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن اللغة ليست إلا وسيلة الاتصال والتفاهم للتعبير عن المعاني والأهداف والأفكار وليست الا مظهراً من مظاهر العقلية فإذا كان التفكير صحيحاً سليماً كان التعبير عنه كذلك مادام صاحبه يجيد التعبير ويتقن اللغة وإذا كان التفكير صائباً كان التعبير عنه صائباً متى يوفق صاحب التعبير عما يريده ولكن أرى أن المسألة أعمق من ذلك ولكنني أرى من وجهة نظري المتواضعة أن هناك تفاعلاً بين اللغة والتفكير فاللغة المنظمة تعمل في تنظيم الفكر والفكر المنظم يعمل في تنظيم اللغة وهكذا. وكذلك العكس وأن المتحدث إذا تحدث باللغة الأجنبية خضع لمنطقها وطرق تفكيرها لما يخضع لاختبار كلماتها واختبار أساليبها وكيفية معالجة الموضوع فيؤثر ذلك كله في تفكيره وجدله وحججه.
وعلى ذلك الأمر يحاول المتجادل أن يكون انجليزياً أو فرنسياً في تفكيره وفي سعة معرفته عن هذه اللغة كما هو انجليزي أو فرنسي في لغته.
فهو يشعر بهذا الأمر من أجادوا لغتين أو أكثر من ذلك.
فهم إذا تكلموا بلغة أجنبية راقية شعروا بذلك أن هناك غرضاً معلوماً ومحدداً وواضحاً يرمون إليه في حديثهم وحججهم وأنهم يضعون لذلك خططاً ثابتة معينة تشبه خطط الحرب يضعها قادتها - فإن مجيد اللغتين كثيراً ما يفكر باللغة الاجنبية، ويترجم تفكيره إلى اللغة العربية وقلماً يعكس الأمر مع أن اللغة العربية هي لغته الأصلية وهي التي نشأ عليها وتربى في أحضانها فكان معقولا أن تكون هي لغة تفكيره فإذا غير بلغة أجنبية نقل تفكيره إليها - وليس من المعقول تعليل هذه الظاهرة ولكن يمكن أن يقال: إن السبب في ذلك أن اللغات الأجنبية الراقية قد استكملت أدواتها من حيث الألفاظ الموضوعة لكل آلة مخترعة ولكل معنى مستكشف، كما استكملت أدواتها من حيث أساليب التفكير وصياغة المعاني صياغات مختلفة مما جعلت الذهن يقبلها والعقل كذلك وأجمل في الذوق.
وأن اللغة العربية تأخرت في تاريخها الحديث ولم تجار اللغات الأخرى.... بالرغم ما يقوله الدعاة والمفكرون من أنها أغنى اللغات وأجمل اللغات على الإطلاق ثم يتركونها من غير أن يعملوا على تكميل نقصها ومعالجة ضعفها..
والأمر الثاني - أن الأمم الاجنبية الراقية قد استفادت طويلاً من المجالس النيابية والمناظرات المدرسية والجامعية وتكونت لديهم مع مرور الزمن تقاليد معروفة مألوفة غير مكتوبة وأثرت في جدلهم ومناظراتهم ومجالسهم أثراً كبيراً كما أثرت في طرق تفكيرهم ولغتهم التي يتبعونها في الجدل والحراك والمناظرة.
ومما لا شك فيه أن اللغة الأجنبية خالية من ألفاظ التملق وعبارات التزلف.
أما لغتنا العربية وما أدخل عليها من لغتي الفرص والترك ولا تجد من عبارات الحشو التي تدل على الذل والخضوع ما تجدها في لغتنا العربية الحديثة.
كانت لغتنا العربية في السابق لغة ديمقراطية شريفة نبيلة يوم كانت اللغة العربية لغة العرب الديمقراطيين الذين لا يفرقون كثيرا بين مخاطبة هذا وذلك وبين بعضهم بعضا كلهم سواسية ما أجملها من لغة وما أجملها من ألفاظ وعبارات.