لا مكان اليوم بيننا لمقصر أو متخاذل أو متحزب أو صاحب هوى أو فتنة ">
الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
شدّد معالي الدكتور توفيق بن عبدالعزيز السديري، نائب وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، على الأئمة والخطباء والدعاة ومسئولي المراكز والمكاتب التعاونية للدعوة وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم بأن واجبهم عظيم ومهمتهم جسيمة في درء الفتن والأزمات والنوازل الخطيرة التي تعصف بغالب المجتمعات المسلمة اليوم، وأضاف محذراً: أقولها صراحة أنه لا مكان اليوم بينناً لمقصر أو متخاذل أو متحزب أو صاحب هوى أو فتنة. موضحاً أن الوظيفة التوجيهية للداعية والإمام والخطيب ليست تشريفية فحسب، بل هي قبل ذلك تكليف وحمل ثقيل وأمانة وميثاق من الله تعالى، يقول الله سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} الأحزاب:72، ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} آل عمران: 187. فالله الله أن نؤدي لهذا الميثاق حقه ولهذه الأمانة مستحقها قبل أن نسأل عن ذلك ليس في الدنيا وأمام مجتمعنا ودولتنا فحسب بل أمام الله في مشهد يوم عظيم.
وخاطب الدكتور توفيق السديري الدعاة، في دراسة له تحت عنوان «واجب الخطباء والأئمة والدعاة تجاه الفتن والنوازل والأزمات»، قائلاً: أنتم في هذا الوطن المملكة العربية السعودية الذي قام على أساس من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والدعوة إليهما وتحكيمها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنتم خط الدفاع الأول عن الدين ثم الوطن، عليكم واجب شرعي تأثمون بتركه أو التخلي عنه لأن ذلك كالتولي يوم الزحف، فديننا ووطننا مستهدفان فإن تخاذلتم أنتم فمن يقوم بالواجب الشرعي؟ واستطرد متسائلاً: هل تتركون عقيدتكم ومنهجكم ووطنكم يدافع عنه أهل الأهواء وأنصاف المتعلمين؟.. ولنصارح أنفسنا ماذا قدم كل خطيب وداعية في هذا المجال؟ وماذا قدمت المراكز والمكاتب التعاونية من برامج وأنشطة لمعالجة ما نمر به وفق المقتضى الشرعي وما عليه علماء هذه البلاد الذين هم استمرار للسلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم؟
إمامة المسجد
وينبّه السديري إمام المسجد إلى فقهه لولاية الإمامة وأن المسجد مكان لتوحيد الكلمة، وجمع الصف، وليس مصدراً للفتنة والبلبة، ونشر الضغينة بين أفراد المجتمع؛ وذلك لكون المسجد مصدر خير وعلم وجمع للصف، وتوحيد للكلمة، ومصداق هذا الأمر إذا كان إمام المسجد وخطيبه عالماً من علماء المسلمين، يستنير المصلون بعلمه وسمته وخلقه، وكثيراً ما يكون العالم الفقيه في مسجد مصدر إشعاع وخير لهذا المسجد ولجماعته، وترى حب الناس لهذا الإمام وحرصهم على التلقي عنه لعلمهم بأنه يضع الأمور في مواضعها، وما يرونه فيه من خلق حسن، ورفق وتؤدة، ومعالجة عاقلة للأمور، مبنية على علم بالكتاب والسنة وفقه في الإمامة، فهم يحافظون على صحبته وحضور مجالسه والاستفادة منه، وبهذا نجد أن الإمام هو رمز الاجتماع والائتلاف حين حث النبي صلى الله عليه وسلم على اتخاذ إمام للصلاة حتى وإن كانوا ثلاثة، قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم)، فوجود إمام للصلاة يصلون خلفه دليل على وحدة كلمتهم، وعدم تفرقهم، والمساجد لم تكن يوماً ما مصدراً للفتنة، ولا لتشتيت الصف، ولا زالت المساجد على هذا الأمر، وهي مكان لجمع الكلمة، وتوحيد الصف، حتى حاول البعض صرفها إلى غير وجهتها، واتخذت بداية للتفرقة، وإن إمام المسجد والخطيب دعاة، والداعية متعبد باتباع المنهج النبوي في الدعوة إلى الله، مما يستلزم التعرف على هذا المنهج. والتعرف على المنهج النبوي في الدعوة يمكن الدعاة من ترتيب أولويات دعوتهم من غير اعتساف لخطوات المنهج أو قفز على المراحل، ومن هنا يتبين أن الدعوة إلى الله رسالة لابد من إيصالها إلى الناس، ولما كانت هذه الرسالة ربانية فإن منهج تقديمها للناس رباني بالضرورة.
تبصير الناس
ويشير د. السديري إلى أنه لمعرفة هذا المنهج لابد من النظر في أسلوب الداعية الأول الذي نزلت عليه الرسالة، فقد كانت سُنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي التطبيق العلمي لهذا الدين، والمجتمع يريد من الداعية إلى الله تعالى أن يكون مراعياً لمقصد الدعوة، فلا يكون بعزلة عن وقائع المجتمع، وما تتطلبه ظروف الحياة، وفي هذا الزمن يكون من الإهمال والتقصير من الداعية مثلاً أن لا يرى له مشاركة في تبصير الناس بواجبهم تجاه ولاة أمرهم خصوصاً في زمن الفتن وكثرة الشبهات، مع استفاضة الأخبار بلزوم الجماعة، وطاعة ولي الأمر. وقد لا يستشعر بعض الناس أهمية الحديث عن مثل هذه المواضيع إلا في مثل هذه الأوقات؛ لأنه في وقت الفتن يعرف الناس بالمشاهدة فائدة هذه النصوص المتكاثرة في مسألة السمع والطاعة والجماعة ووحدة الصف. ويعرف الناس وقت ورود بعض الخلل الأمني الأثر الحسن للتلاحم بين الحاكم والمحكوم. وقت فقدان الأمن يعرف المجتمع أهمية الأمن، وأنه بدون الأمن فإنه مهما أوتي المرء من متاع الحياة، فهي لا تساوي شيئاً. قال - صلى الله عليه وسلم -: (من أصبح منكم آمنا في سربه - أي نفسه - معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)، مشيراً إلى أن الدعوة لا تنمو إلا في ظل دولة تحوطها وتؤازرها وتؤيدها مما يوجب الالتزام بالمنهج الشرعي في علاقة المسلم بولي الأمر التي مبناها على السمع والطاعة بالمعروف في العسر واليسر، والمنشط والمكره، حتى لو حصل من ولي الأمر ما يكرهه، لأن الاستهتار بولي الأمر أو إظهار ما يشعر الآخرين بمخالفته له عواقب لا تحمد، ونتائج لا يفرح بها إلا من كان في قلبه زيغ أو هوى، وما نراه اليوم من فتن، وما عايشناه من أحداث مفجعة نتيجة طبيعية للتخلي عن المنهج الشرعي في ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم والراعي والرعية، فخرج من خرج عن السمع والطاعة فماذا كان؟
كان القتل والتدمير والترويع ومحاولة إدخال البلاد في نفق مظلم من الفوضى، وكأننا لم نستوعب ما سجله التاريخ الإسلامي من أحداث كان رائد مرتكبوها الإصلاح وشعارهم نصرة الدين، وكأننا لم نحسن قراءة ما حصل في البلدان من حولنا.
منهج غير شرعي
ويبين الدكتور توفيق السديري أن منازعة السلطان في سلطانه، أو سلوك منهج غير شرعي في مناصحته خدمة عظمى لأعداء الأمة المتربصين بها الدوائر، وحين نقر الجرأة على ولي الأمر - من أي إنسان كان - فإننا لا نخدم الدين، ولا نخدم الوطن، ولا نخدم حتى مصالحنا الخاصة، وإنما نخدم القوى العالمية الباغية التي تريد زعزعة أمن بلدان المسلمين، وتفريق أهلها، وتدمير نظمها، حتى تمهد لها الطرق لاستغلالها، ونهب خيراتها، أو حتى احتلالها، وهي لن تستطيع تحقيق ذلك إلا بإثارة الشحناء بين أبناء البلد الواحد، وإذكاء نار الفتنة بينهم، ولو برفع شعار الإصلاح أو الدعوة أو محاربة المنكرات أو التقدم أو رفع الظلم، وعلينا الحذر ولنقطع الطريق على كل معتد أثيم من أي جنس أو لون، ولنجتث جذور نبتة الفتنة في بلادنا، ولنضع أيدينا في أيدي علمائنا، وولاة أمرنا لنكون صفاً واحداً ويداً واحدة، لا نصدر إلا عن آرائهم، ولا ندين بالسمع والطاعة إلا لهم، ولنستحضر أنه في الوقت الذي يغرس بعض أبنائنا خنجره في ظهر أمته وخاصرة بلده، تزداد الحملات المسعورة ضد هذه البلاد وقيادتها تتهمها بأنها متطرفة وأصولية وغير ذلك من التهم والألقاب المنفّرة.
فانظروا -أيها العقلاء- كيف تتلاقى المصالح، وكيف يخدم بعض أبناء الإسلام من أبنائنا بحماقتهم وجهلهم أعداء الإسلام، وكيف يخالفون الدين باسم نصرته، وكيف يسعون في الأرض فساداً بدعوى أنهم يريدون الإصلاح، ألا ساء ما يحكمون ويقدرون {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِين} الأعراف: 155.
المرجع عند الاجتهاد
ويذكر الدكتور السديري في دراسته «واجب الخطباء والأئمة والدعاة تجاه الفتن والنوازل والأزمات» أنه إذا كانت ولاية الإمامة والخطابة ولاية شرعية متعلقة بعبادة عظيمة فإن ما قد يعرض للإمام أو الخطيب فيها من مسائل تنظيمية أو شرعية لا يجد فيها حكماً شرعياً، فإن الرجوع فيها إلى السلطة التنفيذية والجهات الشرعية، مشيراً إلى أن المسجد ليس مكاناً للاجتهاد من قبل الإمام، فالمرجع فيما يحدث من أمور للوزارة إذا كان أمراً تنظيميّاً، والعبرة بفتوى أهل العلم الذين ولّاهم وليّ الأمر منصب الفتوى فيما يحتاج إلى نظر شرعي، ومن أوضح الأمثلة على ضرورة رجوع الإمام والخطيب إلى الجهة الشرعية وعدم العمل باجتهاده: مسألة القنوت في النازلة، حيث أن هذه مسألة شرعية اختلف العلماء فيها، ولو أن كل من أراد القنوت قنت لصار الأمر فوضى، خصوصاً في هذا الزمان الذي لم تتضح فيه كثير من الأمور، ولذلك رجّح أهل العلم بأن قنوت النازلة مربوط بفتوى أهل العلم المعتبرين في البلد التي أناط بهم إمام المسلمين النظر في المستجدات، فهم الذين يقدرون النازلة، ويراعون المصالح والمفاسد في هذه الأمور، وهذا رأي رآه أهل العلم قديماً. وهو رواية عند الحنابلة.
وذكر بعض الشافعية أنه يستحب مراجعة الإمام الأعظم في قنوت النوازل، فإن أمر به وجب. ثم إن مسألة القنوت في الصلاة من الأمور العامة المعلنة والتي ينبغي أن يكون الأمر فيها منضبطاً لكي لا يشتبه الأمر على العامة، وتتشتت أفهامهم، أما ما بين الإنسان وبين نفسه فهذا يرجع فيه إلى اجتهاده، والمسلم مأمور بالدعاء في مواضع عديدة، لكن الأمور العامة ينبغي أن تكون منضبطة، وأن يرجع فيها إلى أهل الرأي الذين وكل إليهم الإمام النظر في ذلك.
مصدر المعلومات
ويستطرد توفيق السديري قائلاً: مما يرتبط بهذا الأمر هو أن الحكم في هذه الأمور الشرعية يكون للعلماء المعتبرين، فليس كل شخص يستقى منه، ولا كلّ ما يعلم يقال، ولا كل خبر نجده في وسيلة إعلام أو في شبكة المعلومات أيّاً كان مصدره أن نبني عليه أحكامنا تجاه المجتمع أو أشخاص معينين أو مؤسسات معينة، فيكون حكمنا متعسفاً، وكل ذلك يخالف استشعار الإمام أو الخطيب أو الداعية أنه في شعيرة عظيمة.
ويشدد فضيلته على أن الخطبة والموعظة وما يقدم في المسجد من برامج ليست نشرة أخبار، أو حديث عن أمور لا تفيد عامة الناس بل تزيد شحنهم وإيغار صدورهم في أمور لا حول لهم فيها ولا قوة كالحديث عما يقع في بعض الدول الإسلامية ومواقع الصراع، فما لا يستطيع معه الحضور من فعل شيء فليس من الفقه ولا من الحكمة ولا من الواجب الحديث عنه بل الواجب عكس ذلك.
الفتن والنوازل والأزمات
ويقسم الدكتور توفيق السديري الفتن والنوازل والأزمات إلى قسمين:
1- فتن أو نوازل أو أزمات فردية أو خاصة تخص الفرد نفسه: فقد يفتن الإنسان في نفسه أو ولده أو ماله، وقد تنزل به نازلة خاصة به في ماله أو وظيفته ونحو ذلك، ويدل على ذلك حديث حذيفة، رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند عمر، رضي الله عنه، إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة، قال: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: ليس عن هذا أسأل، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً، قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح، قال: لا بل يكسر، قال عمر: إذن لا يغلق أبداً، قلت: أجل، قال الراوي: قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أن حديثه حديثاً ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله من الباب فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: من الباب، قال عمر. رواه البغوي وهو حديث صحيح.
2- فتن كبرى أو نوازل عامة تنزل بالمجتمعات أو الأمة كالحروب والمعاهدات والأزمات المالية الدولية ونحو ذلك، وهذا النوع من الفتن لا يمكن التعامل معه إلا عن طريق المجامع العلمية والمراكز البحثية المتخصصة والعلماء المتخصصين في هذا النوع من الفتن أو النوازل والأزمات.
كما يقسم السديري فقه الفتن والأزمات والنوازل التي تنزل بالأمة والمجتمعات، إلى قسمين:
الفقه العام للتعامل مع الفتن والنوازل والأزمات، والفقه الخاص للتعامل مع الفتن والأزمات والنوازل، كما إنّ التعامل الفردي مع الفتن من خلال استقراء النصوص الشرعية في الآتي:
اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، العبادة، عدم التعرض للفتن والحذر من الوقوع فيها، لزوم جماعة المسلمين، التأني وعدم العجلة حتى تظهر الأمور وتتضح الحقائق.
1- اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى: وذلك أن هذه الفتن والنوازل هي نوع من الابتلاء والامتحان أو العقوبة كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} الأنفال: 25، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} الأنعام: 65، وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد ابن معاوية فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه فناجى ربه طويلاً ثم قال: (سألت ربي ثلاثاً، سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها). وأنه عند وقوع الفتنة والبلاء لابد من اللجوء إلى الله والتوبة والاستغفار كما قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} الأنعام: 43.
2- العبادة: والمقصود كثرة التقرب إلى الله بالطاعات، وأنواع القربات والعبادات، وهو توجيه نبوي كريم أشار إليه حديث معقل بن يسار رضي الله عنه فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) وفي رواية عنه أيضاً: (عبادة في الهرج أو الفتنة كهجرة إليَّ).
3. عدم التعرض للفتن والحذر من الوقوع فيها: وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به).
لزوم جماعة المسلمين
ويدلل الدكتور توفيق السديري على لزوم جماعة المسلمين بحديث حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، المشهور، قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه، قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر، قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)، مؤكداً أن الحث على لزوم الجماعة جاء في النصوص الشرعية حتى وإن كان حصل من الإمام مخالفات شرعية فإن الخير في الجماعة والوحدة، والشر في الفرقة والاختلاف، عن ابن عباس، رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية).
الفقه الخاص
ويوضح السديري أن المقصود بالفقه الخاص للتعامل مع الفتن والأزمات والنوازل، تعامل العلماء وأهل الفتوى والأمراء، وهو أخطر من سابقه وأهم، لأن الله سبحانه جعل المرجعية في هذه الأمور النازلة في المسلمين إلى أهل الحل والعقد وأهل الفتوى والرأي في المسلمين فهم الهداة وهم المتبوعون كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فدلت هذه الآية على أن المسائل النازلة بالأمة مرجعها قبل إشاعتها وتداولها بين العامة إلى:
1- الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقوم مقامه بعد وفاته سنته، ومن يفهمها ويفسرها من العلماء، وسوف نفصل في شأنهم بعد قليل.
2- ولاة الأمر وهم الأمراء وذلك لطبيعة عملهم وخبرتهم في الأمور العامة مما قد يخفى على غيرهم.
أما العلماء فهم نوعان:
أ- نوع يستطيع استنباط الأحكام الشرعية ومعنى الاستنباط أي: استخراج الحكم الشرعي بفهم واجتهاد، وهم أهل الفتوى الذين توفرت فيهم صفات المجتهدين.
ب- نوع لا يستطيعون استنباط الأحكام الشرعية مع علمهم بها أو بكثير منها.
المرجعية عند الفتن
ويشدد الدكتور السديري على أن المرجعية عند الفتن واختلاف أمور الناس إنما يكون إلى: الفقيه والعالم الراسخ في العلم وهو من يفهم الحكم الشرعي بدليله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينظر إلى واقع الفتوى ومدى انطباق هذا الحكم الشرعي على هذه الواقعة، ولا يكون ذلك إلا لمن امتلك أدوات شرعية وعقلية منها:
أ- توفر شروط الفتوى عنده.
ب- الفهم الصحيح للواقعة.
ت- اعتبار المآلات والمصالح والمفاسد للفتوى، وهذه كما قال الإمام الشاطبي: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
ث- مشاورة أهل العلم والخبرة من العلماء والفقهاء والخبراء أو ما يسمى بالاجتهاد الجماعي.
ج- التأني وعدم العجلة حتى تظهر الأمور وتتضح الحقائق كما في حديث وهب بن عمرو الجمحي الذي أخرجه الدارمي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لا تعجلوها قبل نزولها، لا ينفك المسلمون وفيهم إذا هي نزلت من إذا قال وفق وسدد، وإنكم إن تعجلوها، تختلف بكم الأهواء، فتأخذوا هكذا وهكذا) وأشار بين يديه وعن يمينه وعن شماله.
حوادث وأزمات
ويشير د. السديري كما جاء في الدراسة إلى أنه في بعض الأحيان يلزم المفتي ألا يتأخر عن بيان الحق للناس لأن في تأخيره ضررٌ بهم والمشروع أن يكون متعاملاً مع هذه النوازل بالتعامل العام الذي سبق ذكره في القسم الأول، فهو وإن حمل صفة الفقيه وأمانة المرجعية فإنه يبقى فرداً مسلماً ينبغي أن يتعامل مع هذه الفتن بهدي الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن من الأمور التي ينبغي للخطيب والإمام والداعية أن يكون له دور فاعل فيها: ما يقع من حوادث وأزمات كأزمات الغلو والإرهاب وحوادث التفجير وانتشار فكر التكفير، أو التشغيب على ولاة الأمر، والتقليل من شأنهم بالهمز واللمز، وبيان عن عدم شرعية الجماعات والأحزاب التي فرقت الأمة، فالناس أحوج ما يكونون إلى توجيههم في هذا الموضوع من خلال: بيان الوجهة الشرعية فيما يقع من أحداث، وإيضاح فداحة ما يقدم عليه هؤلاء من أعمال، وخطورة وضرر الانتماء والتأثير بأفكار الجماعات والأحزاب والتنظيمات التي شتت الأمة باسم الدين والدعوة لاسيما تلك التي أعلنها ولي الأمر جماعات محظورة وأن الانتماء والتعاطف معها مناقض لمقتضى البيعة والسمع والطاعة لولي الأمر، وأن الخطيب والداعية لا ينبغي أن يكون علاجه لمثل هذه الأمور مجرد ردود أفعال ومواقف وقتية مع حدث معين ثم تنتهي بانتهائه، بل يجب أن يرسم خطة مستمرة في ردّ الشبهات التي قد تعلق بين وقت وآخر حول بعض ما يراه الناس من أحداث في الداخل والخارج، فهذا من أحوج ما يحتاج الناس إلى إيضاحه، كما أن على الخطيب والواعظ والداعية يراعي حاجات الناس لا رغباتهم وفق المقتضى الشرعي للخبطة والموعظة، وإن كره بعضهم الحديث عنها.
النظرة إلى المجتمع
ويأخذ الدكتور السديري على بعض الخطباء والدعاة الذين ينظرون إلى المجتمع نظرة سوداء، فلا يرى الخير فيهم كما يرى السوء، مذكراً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم «من قال: هلك الناس فهو أهلكهم»، مبيناً أن الشر إن كان موجوداً لدى شخص أو شخصين فلا يمكن أن يغطي على كل الخير الكبير الموجود في المجتمع، ولذلك لما سمع النبي خالد بن الوليد سبّ أحد الأشخاص الذين يقام عليهم الحد، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مهلاً يا خالد، فو الذي نفسي بيده! لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لغفر له». ثم أمر بها فصلّى عليها ودفنت. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا الصحابيّ يذكر الجانب السيئ في هذه المرأة أظهر ما فيها من خير كثير لا يجوز له أن يغفله.
وهكذا نظرة الداعية والخطيب للمجتمع ينبغي أن تكون نظرةً معتدلة لا تطغى فيها النظرة التشاؤمية بل الناس فيهم خير كثير. ولعل للناس عذراً لا تعلمه.
خلاصة القول
ويخلص الدكتور توفيق السديري في دراسته «واجب الخطباء والأئمة والدعاة تجاه الفتن والنوازل والأزمات» إلى أنه من أوجب الواجبات في ظل ما تشهده المنطقة والعالم وما نراه من تحولات وتغيرات في جميع الموازين أن نقوم برسالة المسجد والدعوة إلى الله الحقيقية في تحقيق الأمن والأمان الفكري، وأن يكون منبر المسجد وحلقة التحفيظ والمكتب التعاوني والمحاضرة والدرس والموعظة خير درء لأمن المجتمع وتعزيز قيمة الوطنية المنطلقة من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وتعزيز دور المؤسسة الدينية في تنمية الأمن الفكري لدى المجتمع وشبابه على وجه الخصوص.