خالد بن عبدالرحمن الذييب
تعتمد المملكة على النفط، بوصفه أهم مورد اقتصادي للبلاد، ولكن مشكلته أنه غير متجدد. وتعتبر قضية عدم تجدد الموارد أحد المعطيات التي ظهر منها مفهوم التنمية المستدامة، التي يمكن توضيح مفهومها بشكل مبسط ودون الدخول في تفاصيل التعريفات الأكاديمية بأنها الاستفادة من الإمكانات والموارد المتاحة لفائدة الجيل الحالي دون تجاهل الأجيال المستقبلية.
وهو مفهوم بدأ تداوله في مؤتمر الأمم المتحدة «البيئة الإنسانية»، استكهولم عام 1972م. وأحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى فناء هذا المورد (النفط) هو استخدام السيارة الخاصة؛ لذلك فإن النقل المستدام يعتبر واحداً من أهم الحلول التي من الممكن أن تساهم في تحقيق تنمية مستدامة بتقليل التلوث عن طريق تقليل استخدام السيارة، وكذلك تحسين بيئة المدينة بشكل عام، وتوفير فرص عمل في مشاريع النقل العام لتحقيق الهدف الاستراتيجي للتنمية المستدامة بفائدة الجيل الحالي والأجيال المقبلة من الموارد المتاحة. في هذا المقال سوف نركز على الانطباعات حول كيف يمكن أن ينجح مشروع النقل العام لتحقيق مفهوم التنمية المستدامة.
إن نجاح النقل العام يرتبط بمعرفة أسباب عدم استخدام النقل العام. بمعنى أن نجيب عن سؤال «لماذا» لا يستخدم الناس النقل العام مفضلين عليه السيارة الخاصة؟ ومن ثم نجيب عن سؤال «كيف» ينجح النقل العام؟ فمن خلال الإجابة عن «لماذا» نستطيع أن نجيب على «كيف».
هناك ثلاث أسباب رئيسية لرغبة الناس في استخدام السيارة:
1 - الاستقلالية.
2 - المرونة.
3 - مخاطر النقل العام وعدم راحته (الأمان).
فالإنسان بطبيعته يبحث عن الاستقلالية والخصوصية، وهذا موجود في طبيعة الإنسان حتى وإن اختلفت درجة الاستقلالية والخصوصية من مجتمع لآخر. والسيارة بطبيعة استخدامها تحقق هذه الخصوصية والاستقلالية؛ فصاحب السيارة متى ما أراد أن يذهب إلى مكان ما فسيارته عند بيته، ويتجه بها حيث يشاء وقتما يشاء، ويقف عند أقرب نقطة للمكان الذي يريد، ومتى ما انتهى فإنه يأخذ سيارته ويعود إلى بيته. لا يرتبط بموعد تحرك قطار، أو بمكان وقوف حافلة، أو أي شيء آخر.
أما المرونة فتعتبر نقطة مكملة للاستقلالية، فحركة السيارة مرنة في الشارع - طبعاً يفترض أن يكون ذلك دون مضايقة الآخرين - فإذا حدث وتجاوزت شارعاً معيناً من الممكن أن تأخذ أقرب طريق يوصل إليه، وتعود إلى الشارع المقصود، وهكذا. أما الحافلة فإذا تجاوزت شارعاً فعليك الانتظار للمحطة القادمة، ثم الاتجاه إلى المحطة الأخرى التي تأخذك إلى الشارع، وبعد ذلك تركب الحافلة لتوصلك إلى تلك المحطة التي على الرغم من كونها «أقرب» محطة إلى المقصد إلا أنها قد تكون بعيدة في الأساس.. وهكذا قصة طويلة بسبب غلطة بسيطة. فالمرونة المكتسبة من السيارة من الصعب تحقيقها في النقل العام.
أما بالنسبة لمخاطر النقل العام وعدم راحته فأهم مخاطره هو عدم الإحساس بالأمان، خاصة في أوقات متأخرة من الليل. ففي السيارة الرجل مع عائلته في سيارته الخاصة، يقف بسيارته عند باب منزله، وربما داخل المنزل أيضاً. ولكن في النقل العام إذا كانت محطة الانتظار بعيدة نسبياً عن البيت، وفي أوقات متأخرة من الليل، فهذا يبدو مزعجاً للبعض، خاصة للنساء. ففي إحصائيات عام 2006 لمدينة ملبورن بأستراليا للوسيلة المستخدمة للذهاب إلى مكان العمل بينت أن أكثر من نصف مستخدمي القطار هم الرجال بنسبة تصل إلى 51.6 %، بينما المتبقي نساء. وربما يعود ذلك إلى إحساسهن بعدم الأمان نتيجة بعض أوقات الاستخدام، خاصة في الأوقات المتأخرة من الليل، أو مع بزوغ ساعات الصباح الأولى. فهل تم مراعاة أن تكون الحافلات قريبة من الأحياء؟ وهل تم مراعاة أن يتواكب مشروع النقل العام مع تحسين بيئة المشاة، خاصة للنساء؟ فإذا علمنا أن المرأة في ملبورن وجدت بديلاً مناسباً، هو المشي، فما هو البديل المناسب للمرأة في الرياض؟ أم أننا سنستمر نحتاج إلى سائق يقوم بأخذ النساء إلى محطات النقل العام؟!
عرفنا الآن لماذا يستخدم الناس السيارة؛ وذلك نظراً للمميزات أعلاه. ولكن ليتم إقناعهم بالنقل العام لا بد من تبيين بعض عيوب استخدام السيارة. وللسيارة سلبيات عدة، منها ما هو خاص بالجانب الفردي الخاص، ومنها ما له علاقة بالجانب المجتمعي. أما على الجانب الخاص فيشير الدكتور/ محمد شديان في كتابه «العمارة والبيئة.. تخطيط المدن والعمارة البيئية» إلى أن أهم عيوب السيارة:
إبطاء الحركة المتناوبة بين أماكن العمل والسكن، التوتر النفسي الناتج عن الازدحام والتوقف في إشارات المرور. وقد يستغرب البعض إذا سألنا سؤالاً قد يبدو بديهياً، هو «ما الأسرع، السيارة أم الدراجة الهوائية»؟! طبيعي أن الإجابة السريعة المنطقية ستكون السيارة، ولكن ذلك ليس دائماً؛ ففي مقالة تحت عنوان «مدن المستقبل.. مدن صديقة للبشر» يشير «لويس فايلجاست» من مجموعة «جيل للمعمار» إلى دراسة تؤكد أن متوسط سرعة السيارة في ساعات الذروة لا يتجاوز 4كم/ الساعة في مكسيكو سيتي، بينما متوسط سرعة الدراجة الهوائية يصل إلى 10كم/ الساعة في المدينة نفسها في ساعات الذروة! بمعنى أن الميزة التي تتميز بها السيارة ينتفي وجودها في المدن المزدحمة خلال ساعات الذروة.
أما بالنسبة للجانب المجتمعي العام فيشير د. شديان في الكتاب أعلاه نفسه إلى أن كمية السي أو تو المنبعثة من سيارة تسير مسافة 10 آلاف ميل تحتاج إلى 200 شجرة لكي تمتص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بمعنى أن 5 آلاف سيارة تحتاج إلى مليون شجرة تقريباً. وهذا لمدينة لا تزيد على 20 ألف نسمة، إذا افترضنا سيارة/ 4 أفراد.
ومدينة مثل الرياض يبلغ عدد سكانها نحو 5 ملايين نسمة، بمعدل سيارة / 2 فرد تقريباً، تحتاج إلى 500.000.000 شجرة!!
من الواضح أنه كما أن للسيارة مميزات فإن لها عيوباً. فإذا كان من السهل إقناع المواطن بالعيوب على المستوى الفردي فأعتقد أنه من الصعب إقناعه على المستوى المجتمعي؛ فالإنسان بطبيعته يرى الموضوع من زاوية فردية أكثر من كونها اجتماعية. ففي تقرير «المؤشرات البيئية لمدينة ملبورن الكبرى لعام 2003» يشير إلى أن نسبة الذين يستخدمون النقل العام مراعاة للبيئة لا تتجاوز 4 %؛ فالاهتمام بالبيئة أمر يعتبر ثانوياً بالنسبة لكثير من الناس حتى أهالي الدول والمدن المتقدمة. إذن، فإن أمر محاولة إقناع الناس باتخاذ النقل العام بديلاً للسيارة نظراً لأخطارها البيئية تُعتبر من قبيل تضييع الوقت. إذن، كيف يمكن أن ينجح النقل العام؟ وكيف يمكن توجيه الناس إليه؟
لكي ينجح النقل العام لا بد مما يأتي:
1 - خلق المشاكل:
أحياناً لكي تنجح لحل مشكلة عامة لا بد من خلق مشاكل لفئة خاصة. يخطئ من يعتقد أن كل حل لا بد أن يوائم كل فرد؛ فهذا أمر لا يسعى إليه التخطيط؛ لأنه أمر مستحيل؛ فالتخطيط يتعامل مع الناس، وكما هو معروف فإن «رضا الناس غاية لا تدرك»؛ وعليه فإنه لا مانع من «خلق بعض المشاكل» لفئة خاصة؛ لتساهم في نجاح مشروع على المستوى القومي، يفيد غالبية الناس، خاصة أن الفئة التي ستُخلق لها المشاكل تستطيع أن تحل مشاكلها بمالها.. فكيف يكون ذلك؟
من الإحصائية نفسها أعلاه نجد أن 31 % من المستخدمين أشاروا إلى أن سبب استخدام النقل العام هو صعوبة الحصول على مواقف للسيارة. فهذه الفئة من المجتمع عندها سيارة، ولكن مشكلتها أنها تعاني بخصوص توافر المواقف، وإن توافرت فهي بمقابل مادي. إذن، هل هذا يعني أني أحاول أن أحل مشكلة هذه الفئة بتوفير مواقف مناسبة وزيادة عددها وتخفيض سعرها؟!.. إن كنت أريد أن أحل مشكلتهم على المستوى الفئوي، أي الذي يخص فئتهم، فهذا صحيح، لا بد أن أزيد عدد المواقف، وأن أخفض سعر استخدامها، وربما أقلل من سعر البنزين، ولكن إن كنت أريد تحقيق تنمية مستدامة فأنا هنا لا بد من أن أزيد المشكلة عليهم، وأركز عليها؛ حتى يتم توجيه أكبر عدد منهم لاستخدام النقل العام. وزيادة مشكلتهم الخاصة عن طريق زيادة رسوم استخدام الموقف خلال وقت معين، وعدم زيادة عدد المواقف، وأن يكون توفيرها فقط على قدر الحاجة. وهذه الأمور ستكون مقبولة في حالات معينة، وهي أن يذهب الريع لخدمة المواطن لصيانة وتحسين النقل العام. فالمواطن العادي لا يتذمر من الدفع متى ما لمس أن هذا المبلغ سوف يعود عليه بتحسين النقل العام، وتشجيع التنمية المستدامة، وإلا فإن غير ذلك سيكون «جباية» لا أكثر.
2 - سهولة الوصول:
ففي الدراسة نفسه أعلاه أشار كثير من الأستراليين إلى أن أهم سببين يعوقان استخدام النقل العام هما صعوبة الوصول إلى المحطة، إضافة إلى عدم احترام المواعيد؛ إذ يعتبر سكان ملبورن في تلك الفترة غير مخدومين بمحطات قريبة منهم (الدراسة عام 2003)؛ لذلك بالنسبة لهم استخدام السيارة سيكون أسرع؛ لأنها - كما ذكرنا آنفاً - أكثر استقلالية وأكثر مرونة، وهي في الانتظار متى ما أراد المستخدم أن يستخدمها، لكن وسيلة النقل العام محطتها بعيدة، وإذا وصل إليها المستخدم فإن المواعيد غير دقيقة؛ لذلك فإن من أهم عوامل نجاح المشروع هو اختيار محطات مناسبة وقريبة من المستخدمين، ويسهل الوصول إليها.
3 - سعر التذكرة:
كنا قد أشرنا في العامل الأول إلى فكرة «خلق المشاكل»، وهذا قد يُغضب البعض، ويعتقد أننا هنا نؤيد «الجباية». وبما أن الهدف ليس الجباية وإنما خدمة الصالح العام فإن زيادة سعر المواقف، وزيادة سعر البنزين، لا بد أن يتزامن معها تخفيض سعر التذاكر. فإذا اتفقنا أن زيادة سعر إيجار المواقف وزيادة سعر البنزين أمور تساهم في توجيه الناس للنقل العام فلا بد من جهة أخرى أن يتواكب ذلك مع أن يكون سعر التذكرة مناسباً للمواطن ذي الدخل المحدود (فهنا جانب تحفيزي). فالمشروع ليس اقتصادياً ولكن خدمياً، فإذا كان المشروع الاقتصادي الخاص يهتم بكم دفع، وكم عاد، فإن المشروع الخدمي لا يفكر بكم دفع وكم عاد؛ إذ إن العائد ليس شرطاً أن يكون مالاً بل من الممكن أن يكون عائداً غير مادي، مثل تقليل التلوث في المدينة، تقليل زمن الرحلة للمواطن، بما يعود على استخدامه بنتيجة إيجابية في عمله وسلوكياته، وغير ذلك. وكما ذكرنا، سعر التذكرة أمر مهم؛ فنحن لا نزيد سعر إيجار المواقف وسعر البنزين لكسب مالاً، أو وضعه فقط في ميزانية الدولة، ولكن لنعيق استخدام السيارة؛ وذلك تشجيعاً للنقل العام، ولصيانته أيضاً، وتقديمه بأبهى صورة ممكنة. وهذا لا بد أن يتزامن مع تقليل سعر التذكرة، بمعنى أن يكون هناك سياسة الترغيب والترهيب، الترغيب بتقليل سعر التذكرة، والترهيب برفع سعر استخدام المواقف، أو بأسلوب «خلق المشكلة وحلها»؛ فنحن خلقنا مشكلة لفئة معينة برفع سعر البنزين، وزيادة سعر استخدام المواقف، وفي الوقت نفسه أوجدنا حلاً بأن يكون سعر التذكرة في متناول الجميع؛ فالهدف ليس «الجباية»، ولكن خدمة المدينة بما يعود بالفائدة على الناس.
وأخيراً..
إننا يمكن أن نلخص المقال في النقاط الآتية:
نجاح النقل العام مرتبط بمعرفة أسباب عدم استخدامه؛ وذلك حتى نعرف «كيف» نوجِّه الناس لاستخدامه، وليس إرغامهم على استخدامه، وحتى نستطيع أن نجيب عن «كيف» لا بد من أن نجيب عن سؤال «لماذا».
وما بعد أخيراً..
مشاريع النقل العام في المدن تُعتبر من المشاريع القومية التي يجب أن يكون فيها الاهتمام أولاً بخدمة المواطن، وأن يكون التركيز فيها على الكسب الاقتصادي وليس المالي..
أما الفرق بين الربح الاقتصادي والربح المالي فربما يحتاج إلى مقالة أخرى.