الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أما بعد:
فقد كتب الله الموت على الناس جميعاً يقول الله -عز وجل- {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (30 سورة الزمر)، ويقول -عز وجل- {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (26-27 سورة الرحمن)، والأمة الإسلامية قد أنعم الله عليها ببعثة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه كتاب الله المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولذا فإن المسلمين يدركون فضل الصبر على المصائب ويتحملون أحزانها طلباً لثواب الله ومرضاته، وقد جاء في كتاب الله بأن الموت حق وصدق، وأن الإيمان بذلك من لوازم الإيمان ومسلماته، وقد وعد الله الصابرين الراضين بقضاء الله وقدره بالأجر الكبير والثواب الجزيل يقول الله -عز وجل- {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (156-157 سورة البقرة)، وفي صباح يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر للعام السابع والثلاثين وأربع مائة وألف للهجرة النبوية افتقد مجتمعنا الفاضل عالماً فاضلاً من علمائنا الأجلاء ممن عُرف بالأخلاق الحميدة والصفات الطيبة، والتواضع الجم، وحسن الأخلاق، صاحب عفة ونزاهة، وإخلاص وسمت، وأدب، ونُبل، وعلم غزير، يكره سفاسف الأمور، ومساوئها، ويمقت أهلها، ويكره الغيبة، والنميمة، ويحذر من مجالسة أهلها، ومجالسه عامرة بالخير تذكرنا بمجالس أهل الفضل والعلم، والدين، وأصحاب المروءة من السلف الصالح، ولذلك تجد فيها نقاء العقيدة، وقوة التمسك بالفضائل، وشرف العلم، والصدق في القول، ويؤتى في هذا المجلس بمأثور الحكم، وسِير الصالحين ورموز أهل الخير والصلاح والإصلاح، إن هذا العالم الجليل هو صاحب الخلق الجم، والصفات الحميدة، معالي الشيخ محمد بن عبدالله بن عودة الرئيس العام لتعليم البنات سابقاً -رحمه الله-، والمتقلد لعدد من مناصب الدولة الكبيرة في القضاء، وهيئة كبار العلماء، ووكالة وزارة العدل، وكان أحد الذين اختارهم سماحة مفتي عام المملكة آن ذاك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله والرئيس العام لرئاسة القضاء، لتولي أعمال مراجعة وتدقيق المعاملات القضائية في رئاسة القضاء، وهو أحد الذين اختارهم الملك فيصل -رحمه الله- بعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إراهيم رحمه الله لتولي إدارة الأعمال في رئاسة القضاء في المملكة بصفة مؤقتة. ولقد صحبت معاليه -رحمه الله- منذ أن كان رئيساً لنا في تعليم البنات وعملي في ذلك الوقت مدير التعليم للبنات بمنطقة المدينة المنورة واستمرت العلاقة مع معاليه -رحمه الله- متجددة لم تنقطع، ولم تتغير، بل كانت تزداد رسوخاً بعد تقاعده عن رئاسة تعليم البنات، وذلك لأنها علاقة علم ومحبة في الله، ومبنية على الصدق، وخالية من كل المصالح الدنيوية، فأحسن الله عزاءنا بفقده والعزاء لأبنائه، وبناته، وزوجاته، وأقاربه، ولكل الذين يعلمون ما كان يؤديه هذا العالم الجليل من خدمات وجهود كبيرة لوطنه، ولأبناء وبنات مجتمعه، وأسكنه فسيح جناته، وجعل قبره عليه روضة من رياض الجنة، لقد فقدنا بغيابه أثناء مرضه -رحمه الله- والآن بعد وفاته عالماً يختزن في ذاكرته علماً غزيراً وتسجيلاً جميلاً لمجريات الأمور والأحوال التي تصور لنا مدى ما كان يبذله قادة بلادنا من أجل نفع الناس وإسعادهم وما كان يبذله علماؤنا من حسن التوجيه والإرشاد لمجتمعنا، كما كان يختزن في ذاكرته -رحمه الله- فوائد هامة منها تسجيل قضايا نادرة جرى إيجاد حلول لها على هدي من أحكام الشريعة الإسلامية العادلة إضافة إلى تسجيله في مسودة كتاب مخطوط أطلعني عليه سجّل فيه نبذاً مما سمعه أو اطلع عليه من فوائد العلماء الذين عاصرهم وعلى رأسهم سماحة مفتي عام المملكة في ذلك الوقت ورئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- وسماحة من أتى بعده الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- وكوكبة من علماء وقتهم -رحمهم الله- من فوائد علمية وأحكام فقهية جيدة، وما تختزنه ذاكرته أيضاً عن الأفعال المجيدة لولاة الأمر -رحمهم الله- من أيام الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل -رحمه الله-، ومن أيام الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد، والملك عبدالله -رحمهم الله جميعاً-، وما كان يعرفه عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أمد الله في عمره ووفقه لكل خير-.
ويُعد معالي الشيخ محمد بن عوده -رحمه الله- موسوعة عامة في العلم، والأدب، والتاريخ، وحفظ ما كان يستحسن نقله من أقوال وأفعال مهمة تفيد الجيل الحاضر، والأمل إن شاء الله في أبنائه لإخراج ما كتبه والدهم -رحمه الله- من مسودات حول ما كان يحفظه من نوادر القضايا في الفقه وغيرها ومراجعتها مراجعة دقيقة وإخراجها لحيز الوجود ليستفيد منها العام والخاص وتكون نتاجاً علمياً لمعاليه له أثره في ميدان العلم والمعرفة، وفي الحقيقة فإن وفاة معالي الشيخ محمد بن عوده سوف تترك فراغاً عند محبيه وعارفي فضله وذلك لمكانته العلمية ولما كان يقدمه لمجتمعه من نفع عام في العلم، وللمثالية التي كان يتصف بها في النزاهة، وحسن الخلق، والتواضع الجم، الذي يشعر كل من يأتي إليه بأنه أمام عالم فاضل مخلص لدينه، ومليكه، ووطنه، يقابل الناس برحابة صدر، وحرص على قضاء حوائجهم، وتسهيل أمورهم، كل ذلك وهو الرجل الذي تراه دائماً باشاًَ يجذبك إليه السماحة والصبر وحسن الخلق وإبدائه السرور عند مقابلة كل من يأتي إليه زائراً، أو صاحب حاجة في طلب شفاعة، أو غيرها من حاجات الناس، ومن الخصال التي كان يحبها ويحرص عليها -رحمه الله- مع وجود المشقة عليه في ذلك حرصه على القيام بزياراته لولاة الأمر وللعلماء وغيرهم زيارات تكريم أو لعيادة مريض ونحو ذلك، ومن عادته -رحمه الله- اهتمامه بمن يأتي إليه زائراً في مزرعته بالرياض وإكرامه له، وقد جعل أبواب المزرعة مشرعة ومفتوحة لكل من يرغب الدخول إليها من زائرين وغيرهم لقد كان معالي الشيخ محمد -رحمه الله- مثالاً حياً للعالم الذي يحبه الآخرون لتواضعه وحرصه على نكران ذاته يفرح كل زائر إليه بمقابلته وذلك لما يراه من حسن الاستقبال، وهو بذلك يضرب المثل الحي والقدوة الحسنة في الخير وفي محبة التواصل مع أهل الخير وأفراد هذا المجتمع السعودي النبيل وفي حياته العامة تجده -رحمه الله- متصفاً بالبساطة في حياته، صاحب نزعة، وغيرة على كل ما يراه مسيئاً، أو مشيناً، أو مخالفاً للنهج الذي تسير عليه المملكة من التمسك بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، أو يتنافى مع عادات وتقاليد مجتمعنا الفاضل، ومن المهم في هذا الموضوع الإشارة إلى أن وجود العلماء المدركين لعوامل البناء والإصلاح والتوجيه السديد للأمة يُعد أمراً ضرورياً فهم الذين يقع على عواتقهم تحذير أفراد الأمة الإسلامية من الوقوع فيما يضر بالإسلام والمسلمينن الشبهات والأفكار المنحرفة وهم الذين ينيرون الطريق للتمسك بالكتاب والسنة، ولذا فإن العلماء دورهم كبير في المجتمع والثقة بهم كبيرة ولهم قبول عند الناس من خلال لقاءاتهم وأحاديثهم مع أبناء مجتمعهم وهذا ما شاهدته أو شاركت فيه مع معالي الشيخ محمد بن عوده -رحمه الله- من خلال الاجتماعات التي تجمع معالي الشيخ محمد -رحمه الله- مع من يأتون إليه للزيارة في مزرعته ويتناول الحديث التذكير بنعم الله علينا في بلادنا وأن هذا مما يستوجب الشكر لله -عز وجل- وأن الاستمرار على ذلك فيه الخير والبركة ويتحقق معه دوام الاجتماع والألفة لهذا المجتمع الكريم وأثناء هذا الحديث نلاحظ إصغاء الحاضرين وثناءهم على ذلك، والحديث عن معالي الشيخ محمد بن عوده -رحمه الله- وعن أخلاقه وصفاته التي حباها الله إياها يطول استقصاؤه ولكل من يحبون الوقوف على مثالية الرجال المخلصين أن يستفيدوا من سيرهم وأخبارهم ومن الإنجازات التي حفظها التاريخ لهم، من أمثال معالي الشيخ محمد بن عوده -رحمه الله- والتاريخ الحديث يحفل بوجود أعداد طيبة من الرجال الأعلام الذين يعبق التاريخ بسيرهم وأخبارهم، وأود أن أشير إلى أبرز ما يتميز به معالي الشيخ محمد بن عوده -رحمه الله- في الصفات التي من أبرزها ذلك الخلق الرفيع لمعاليه فقد كان -رحمه الله- ممن يتمتع بالأخلاق العالية الرفيعة عفيف النفس حصيف الرأي شريف السلوك متزنا في أقواله وأفعاله يتميز في عمله بالإتقان والمعرفة والخبرة والفراسة، فهو عالم فقيه متواضع سديد الرأي جم الأدب لا يمل مجلسه سمح البال ومهذب في حديثه صادق الود كثير البذل باراً بوالديه في حياتهما وبعد وفاتهما كثير التواصل مع ذويه وأقاربه صاحب جاه مبذول لا يبخل به وهو ميسور الحال وسيرته الذاتية تعد تاريخاً حافلاً بالمآثر والمفاخر والاعتزاز ومجلسه عامر بالأصدقاء والمحبين من العلماء وطلبة العلم والأقارب وذوي الحاجات. غفر الله له وأسكنه فسيح جناته وأنعم عليه بالثواب الجزيل على حسن عطائه العملي والفكري وجعل قبره عليه روضة من رياض الجنة وبارك في ذريته وجعلهم عقباً صالحاً ويسيرون على نهجه في السيرة الحسنة والعمل الطيب والأخلاق العالية متآلفين متحابين وتعازينا لهم بنين وبنات وتعازينا لزوجاته ولكل الأقارب والمحبين له والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
د. علي بن مرشد المرشد - الرئيس العام لتعليم البنات سابقاً