ظهرت لي دوافع كثيرة، شجَّعتني على الكتابة حول العلاقة بين اللغة العربية والإذاعة، أولها: اهتمامي بإعداد البرامج الإذاعية، وبخاصة الثقافية. الثاني: إمكانية الإفادة من الإذاعة في نشر اللغة العربية، ثقافة, وتعليمًا, وتعلُّمًا. الثالث: اهتمام الناس بالإذاعات, وتزايده مرَّات وكرَّات. ولا غرو في ذلك؛ فالإذاعة الجيدة تنجذب إليها الأذن المتذوقة. ولعلَّ قولَ الشاعر العربي بَشَّار بن برد في عجز بيته: (والأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَينِ أحيانًا) ينطبق على حديثنا هذا. الرابع: ليس ثمَّة اختلاف بين الناس على أنَّ الإذاعة جامعة متنقلة, وبخاصة عندما تحترم هذه الإذاعة مستمعيها, وتقدِّم لهم البرامج الثقافية والعلمية؛ ولا يشعرون - عندئذ - بضياع الوقت, أو الملل من متابعتها.
وقد فَطِن العاملون في المجال الإذاعي لهذا الانتشار؛ إذ يقول الدكتور عائض الردادي في كتابه (البث المباشر في الإذاعة المسموعة - ص: 32, 33): «وقد استغل الإذاعيون هذه الميزة للإذاعة أيما استغلال, ووظفوها توظيفًا جيدًا؛ فأدركوا قيمة ارتباط الإذاعة بالمتلقي وسهولته؛ وأولوه اهتمامهم. إن الإذاعة تتصل بمستمعيها ويتصلون بها عبر الهاتف من أي مكان في العالم. ومن خلال الكلمة الجميلة يمكن أن تقيم جسورًا مع المستمع, بخلاف التلفاز الذي لا يستغني عن الصورة...».
ولعلِّي أشير هنا إلى موضوع ذي صلة بانتشار الإذاعة، والاهتمام بسماعها. فقد كنتُ في صباح يوم مشمس أستمع إلى أحد البرامج الإذاعية؛ فإذا بمتَّصِلَة من إحدى صحاري المملكة العربية السعودية تهاتف البرنامج الإذاعي قائلة إنَّها تتابع البرامج الإذاعية متى ما وجدتْ فُسْحَةً؛ إذ إنَّها ترعى الغنم مع أسرتها! وحديث المستمعة ذكَّرني بما كتبه الدكتور عوض إبراهيم عوض في مقدمة كتابه (لغة الإذاعة: دراسة تحليلية), حينما أشار (ص7) بقوله: «ها هم الرُّعاة في كل مكان من العالم يتجولون في الغابات والحقول وهم يحملون جهاز المذياع أثناء ملاحقة الأغنام والأبقار والإبل في الخلاء الواسع؛ فيربطهم بالأهل والعشيرة، بل والعالم كلِّه من حولهم دون عناء أو مشقة. وها هي قبائل الرُّحَّل في أدغال إفريقيا وأمريكا, ووهاد آسيا, تجد في المذياع صديقًا وفيًّا، يسليها في ترحالها المتواصل عبر السنين. وإذا تجولنا في الأسواق في كل بلاد الدنيا نجد جهاز المذياع مفتوحًا في كثير من المحال طوال ساعات العمل. وحتى في البيوت نجد أنَّ أجهزة المذياع قد وضعت بشكل تلقائي في غرف النوم». إنَّ الناظر إلى هذا الانتشار الأثيري لا بد أن يفكر في استثماره من أجل اللغة العربية؛ إذ إنَّ العربية لغة إذاعية منبرية, تلتفتُ إليها الأسماع, وتنقاد إليها القلوب. ولعلنا نلاحظ ذلك حينما يستمع المتلقي إلى بيت من الشِّعر العربي الفصيح, أو فِقْرة من النثر البديع.
وقد حاول بعض المهتمين باللغة تقديم برامج إذاعية، تهتم بالعربية وآدابها. ومن أمثلة هذه البرامج (لغتنا الجميلة) للدكتور الشاعر فاروق شوشة, الذي قدَّم برنامجه الشهير من خلال أثير إذاعة البرنامج العام من القاهرة. ومن البرامج -أيضًا- برنامجا (حديقة اللغة) و(شواهد القرآن) لأبي تراب الظاهري في إذاعة المملكة العربية السعودية. وغيرها الكثير من البرامج.
وأيًّا ما كان الأمر؛ فإن اللغة العربية لغة مُشَوِّقَة؛ إذ إنَّ الأذن تطرب لسماعها؛ ويحب الناسُ المذيعين الذين لا يلوكون ألسنتهم باللحن؛ إذ يفتش كثير من مسؤولي الإذاعات ومستمعيها عن أصحاب الأصوات المتقنة للعربية, المجيدة لمخارج الحروف وصفاتها. بل إنَّ الأمر ذهب إلى أبعد من ذلك؛ إذ يشير الدكتور الإعلامي بدر كريم - رحمه الله - إلى أنَّه كان يُحْسَم على المذيع الذي يخطئ في اللغة العربية مقدار نصف ريال من راتبه, أو ما يقارب هذا المبلغ. بَيْدَ أنَّ أهمية الإذاعة للغة العربية لا تنحصر في تذوقها وحسب؛ بل يمكن - أيضًا - الإفادة من الإذاعة في مجالات شتى، تخدم اللغة العربية، لعلنا نذكرها مقتضبة فيما يأتي:
أولاً: تَجْلِية محاسن اللغة العربية.
ثانيًا: تنمية مهارات الاستماع لدى متعلمي اللغة العربية من أبنائها، وكذلك من غير الناطقين بها.
ثالثًا: إثراء المحتوى العربي على الشابكة بمواد طبعية.
رابعًا: تشجيع الناشئين على حب اللغة العربية.
خامسًا: نشر ثقافة اللغة العربية.
سادسًا: نشر اللهجات العربية التي تفرَّعت من اللغة العربية الفصحى.
سابعًا: تصويب الأخطاء اللغوية المنتشرة في وسائل الإعلام وألسنة الناس.
ثامنًا: حضور اللغة العربية في وسائل الإعلام؛ ما يساعد على الافتخار بها, وحفظ مكانتها بين لغات العالم.
تاسعًا: تشجيع مسابقات الأداء الصوتي المتميز عبر الإذاعة, واكتشاف المبرِّزين من المشاركين فيها.
فهد الشاطري - طالب دكتوراه في اللغويات التطبيقية