يشهد تعليم اللغة العربية من الناطقين بلغات أخرى إقبالا لا تخطئه العين، فقد اتجهت نحو تعلمها شعوب المعمورة من أقصى غربها إلى أقصى شرقها، فقد أنشئت المدارس وفتحت المراكز والمعاهد والأقسام في الجامعات، ويزداد الإقبال عليها -أيضاً- في البلاد العربية فتوافد ويتوافد أرتال من المتعلمين، ويقودنا هذا الأمر إلى طرح سؤالين مهمين في تقديري:
الأول: لِمَ يتزايد الإقبال على اللغة العربية؟
الثاني: ما الدور الذي يجب أن يقابل به هذا الإقبال المتزايد؟
إن الإقبال نحو تعلم اللغة العربية من الناطقين بلغات أخرى ليست عملية عفوية، بل يجيء هذا الإقبال لعوامل كثيرة بعضها خارجية وأخرى داخلية. أما العوامل الخارجية فتتمثل في أن اللغة العربية هي لغة الرسالة الخاتمة ونزل بها القرآن الكريم الذي هو سر حياتها وبقائها، وهي لغة تراث أدبي وعلمي غزير حيث كانت لغة العلم الأولى إلى قرون قريبة، فقد شهدت نتاجا علميا في كافة العلوم من طب ورياضيات وكيمياء وفلك وغيرها، فقد تفاعلت مع محيطها اللغوي فأخذت من اللغات وأعطتها، فقد أثرت لغات عديدة بمفردات ثقافية وعلمية، واحتكت باللغات الأوروبية عبر الأندلس التي كانت تمثل حاضرة علمية تشع منها العلوم عندما كانت أوروبا تركن في سبات عميق، فمنحت اللغات الأوروبية العلوم والفنون والأدب، والتاريخ شاهد بذلك. ولا شك أن للغة العربية وتراثها الحضاري دورا في النهضة الحديثة لما لتراثها من دور بعد ترجمته إلى اللغات الأخرى. ومن العوامل أيضا أن دول الخليج العربي تمثل مصدر رزق لكثير من شعوب العالم، وتعتبر مركزا سياحيا مهما، وموقعها ملتقى بين عدد من قارات العالم، والعوامل الداخلية تتمثل في سمات تميز بنية اللغة العربية الصوتية والصرفية والنحوية وقدرتها على الإبانة، فسماتها الصوتية تتمثل في استخدامها جهاز النطق كله، وقلما تجد لغة تستخدم مدارج جهاز النطق كله. كما أن بها ميزانا صرفيا قياسيا يسهل من خلاله التعرف على طريقة بناء الكلمات وإنتاج مفردات لا حصر لها، فهو من أحكم القواعد الصرفية في اللغات عموما، فجعل العربية من أغنى لغات العالم فتبلغ مفرداتها أكثر من اثني عشرمليون كلمة مما يزيد قدرتها على التعبير ويمكّن منتج اللغة من سعة الاختيار في الكلمات وفق مقتضاه. كما أن العربية وحدها احتفظت بالجملة التي تبدأ بفعل (الجملة الفعلية) وتشارك اللغات الأخرى في الجمل التي تبدأ باسم، وهي اللغة الوحيدة التي تستطيع تأليف الجملة الاسمية ولا يكون الفعل أحد مكوناتها. وتعدد بنيتها النحوية يعطيها ثراءً مما يجعلها أكثر تبيانا وتعبيرا. وهذا التميز البنيوي للغة العربية جعلها من أنضج اللغات وأكسبها القدرة على التعبير والبيان.
فلكل هذه الخصائص والسمات دور جعل الإقبال كبيرا على اللغة العربية، فتزايد تعليمها في الآونة الأخيرة، وتدفق المتعلمون على الأقطار العربية،وازداد الإقبال عليها أكثر بعدما أقرّت الأمم المتحدة ضمن إحدى اللغات الرسميّة لها. تلك الأسباب مجتمعة وغيرها ممّا يضيق ذكرها في هذا المقال، جعل المسؤولية في خدمة تعليم العربيّة وتسويقها جسيمة والمهام كبيرة يحتاج الأمر معها إلى تخطيط لغوي سليم يقابل مستوى الإقبال، ويلبّي حاجات المقبلين ويراعي اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، وينبغي في هذا التخطيط الأخذ بنتائج البحوث الحديثة بخاصة البحوث المنجزة في اللسانيات التطبيقية عامة فضلا عن إقامة أبحاث ودراسات متأنية خاصة باللغة العربية، والانفتاح على المؤسسات غير العربيّة العاملة في مجال تسويق لغاتها بخاصّة الإنجليزية؛ وذلك للإفادة من تجاربها وخبراتها مع الاحتفاظ بخصوصية اللغة العربيّة ومتطلّباتها. يلزم ذلك كله ضرورة تطوير المناهج التعليمية لتعليم العربية لغير أهلها وفق أسس علمية ولغوية ونفسية وتربوية وتقنية. وكذلك على مؤسساتنا الاهتمام بتدريب أساتذتها ليواكبوا التطور المتسارع في مجال تعليم اللغات الأجنبية، والاهتمام بالبيئة التعليمية التي يمارس فيها اللغة الفصيحة لا الدارجة، كما أنه لا بد أن تسلك مؤسساتنا مدخل تعليم اللغة لأغراض خاصة، فتصمم برامج تعليم اللغة لأغراض أكاديمية للطلاب الذين يودون الالتحاق بالكليات الجامعية، وكذلك برامج تعليم اللغة لأغراض مهنية لأولئك الذين جاءوا للعمل في البلاد العربية وخاصة دول الخليج التي تشهد تدفقا كبيرا من أصحاب المهن من أناس غير ناطقين بالعربية وكثير منهم يرغبون في التعرف على الثقافة العربية ومجتمعها، كما يلزمها تهيئة بيئة لغوية تسهم في سرعة اكتساب اللغة.
وبجانب آخر لا بد من الاستفادة من الفضاء الواسع فتقدم مؤسساتنا مشروعات لتعليم العربية عبر الانترنت لتصل إلى جمهور عريض يرغب في تعلمها، ولا تسمح ظروفه الالتزام بالانتظام في برامج تعليمية في إحدى المؤسسات التعليمية، ومن الضروري تهيئة بيئات افتراضية ليمارس المتعلم فيها لغة عربية سليمة تعوضه عن مجتمع المؤسسات التعليمية.
وبجانب البرامج التعليمية لا بد من تنظيم الفعاليات الثقافية التنافسية التي تثري اكتساب اللغة العربية وتعلمها وتزيد من الإقبال عليها، فمنها المنتديات اللغوية، والمسابقات العلمية، والمهرجانات التراثية، كل ذلك وغيره في تقديري يقدم العربية في أبهى صورها، ممّا يجعل المقبلين عليها ملفين ضالتها كما يعزّز فرص الإقبال عليها لدى الآخرين من أصحاب اللغات الأخرى.
إن الاهتمام بتعليم اللغة العربيّة للناطقين بغيرها يُسهم في دفع التّهم الغربيّة التي تُلصق بالإسلام والمسلمين جراء الإرهاب والأفكار المتطرّفة التي لا تمّت إلى الإسلام بصلة، إنّ تعليم العربيّة ونشرها كفيل بإتاحة الفرص لمن يريد أن يعرف حقيقة ديننا الحنيف من تسامح وسلام ودعوة إلى الأمن وصون النفوس والحقوق واحترام الآخر ودينه وثقافته، فالحقّ إنّ السبيل المباشر والطريق المفضي إلى اطلاع غير العربي على تلك الحقائق هو العربيّة وهذا اللسان.
د. الصديق آدم بركات - دكتوراه في علم اللغة، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا - أستاذ مساعد بقسم علم اللغة التطبيقي معهد تعليم اللغة العربية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية