الحمد لله تعالى القائل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى القائل: «إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة في الأرض، فبها يتراحم الخلق، حتى إن الفرس لترفع حافرها، والناقة لترفع خفها مخافة أن تصيب ولدها. وأمسك تسعة وتسعين رحمة عنده ليوم القيامة» [رواه البخاري وغيره].
إن للحياة ركائز تعتمدُ عليها، وأسساً تنبني عليها، ومعاني سامية تُناطُ بها المنافعُ والمصالحُ. ومن هذه المعاني العظيمة، والصفات الكريمة، التي تَسعدُ بها الحياة، ويتعاون بها الخلق، (الرحمة).
والرحمة صِفة كمال في المخلوق، يتعاطفُ بها الخلق، ويشفق بها القوي على الضعيف، فيحنو عليه بما ينفعه، ويمنع عنه شره، ويتوادُّ بها بنو آدم. فالرحمة في الفطرة التي خلقها الله في جميع خلقه من بشر وحيوان. والإسلام دين الرحمة، فتعاليمه لتحقيق الخير والعدل والرخاء والحق والسلام، والعبودية لله رب العالمين، ولدحض الباطل، واجتثاث جذور الشر. عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» [رواه البخاري ومسلم]. ولكن قد تطمس الفطرة بالمعاصي، فيحل محل الرحمة قسوة جبّارة ضارة.
إن الرحمة من الخُلُق العظيم، أودعَها الربُّ في مَن شاءَ من خلقِه، وحُرِمَها الشقي من الخلق. وقد رغَّب الإسلام في التخلُّق بالرحمة، ووعدَ الله على الرحمة الأجرَ الكريمَ، والسعادة الدنيوية والأُخرويةَ؛ فقال تعالى في خاتَم الأنبياء والرُّسُل عليهم الصلاة والسلام، نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وفي أمَّته: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه وَالَّذِينَ مَعَه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّه وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفسهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فَأولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. وقال تعالى في رحمة الوالِدَين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حسنٍ، وإن الله تعالى يُبغِضُ الفاحشَ البَذِيء» رواه الترمذي، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». ومن ثوابِ الله للرُّحماء: أن الله يرحمُهم، ومن رحِمَه الله لا يشقَى أبدًا. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرَّاحِمون يرحمُهم الرحمن. ارحَموا من في الأرض يرحمُكم من في السماء» رواه أبو داود، والترمذي، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ».
ما أحوج البشرية إلى هذه المعاني الإسلامية السامية، وما أشد افتقار الناس إلى التخلق بالرحمة التي تضمّد جراح المنكوبين، والتي تواسي المستضعفين المغلوبين، ولاسيما في هذا العصر، الذي غاضت فيه الرحمة من أكثر الخلق، فلا يسمع في هذا العصر لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثكالى، ولا لحنين الشيوخ، ولا لكلمة الضعفاء، ولا يسمع فيه إلا للغة القوة، ومنطق القدرة.
يوسف الشميمري - عميد كلية التربية