يعد مشروع النشر في الوطن العربي، مشروعاً استراتيجياً يشارك في رسم وتكوين الصورة الثقافية بنمطيتها السائدة كتخليد لذكراها، وضخ الثقافة الحاضرة الحية لتغيير الملامح بإضفاء أشكال جديدة وتقديم أكثر من نوع ثقافي على هيئة نماذج متعددة من الأفكار والأطروحات.
إن من يحمل على عاتقه هم النشر والتنوير والتنويع الفكري ودمج دماء الثقافة والأدب بين القديم والحديث، وتعزيز الدور الثقافي في المجتمع، فإنه وبلا شك يدرك أن عليه ممارسة دور يتمثل في البحث عن الكاتب ومادته المعروضة للنشر، فمياه السوق الثقافي الراكدة لابد أن تتحرك بدماء وأفكار جديدة تمثل رؤية جديدة وتكون شاهداً على هذا العصر بعد مرور سنوات عديدة.
فمن المفترض أن يكون الكاتب أو الكاتبة هنا هو الحلقة الأقوى، لكونه صاحب السلعة/الفكرة ويفترض أن يتلقى المفاوضات من الدور التجارية لنشر عمله، بدلاً من ضياع عمله الذي ضخ فيه عصارة فكره هباء منثورا، وذلك بتركه حبيس الأدراج وظلماتها التي انطوت على أعمال كثيرة، كادت أن تكون في يوم من الأيام إنتاجاً أدبياً ثقافياً مميزاً ومثريا للساحة.
أتساءل أحياناً من يحتاج إلى الآخر؟
هل يحتاج الكاتب إلى دور النشر أم أن دور النشر تحتاج إلى الكاتب؟ إنه سؤال أزلي يشبه سؤال البيضة والدجاجة، غير أنه يختلف عنه في وجود الإجابة، وهي حاجة الدور لوجود الكُتاب، لأن النشر فيما قبل الإعلام له وسائله المتعددة وطرائقه المتنوعة، والدليل هو ما وصلنا على سبيل المثال من أدب الجاهلية وما قبل الإسلام، وهو ما يدل على أن الحاجة الكبرى هي لدور النشر، فإنتاجها قائم على غزارة ما ينتجه فكر الكُتاب، فإن لم يكن هناك ثمة من يكتب، لن يكون هناك دور للنشر، ولكن مع الاستراتيجية الربحية القُحة والبحتة راودتني الشكوك حول يقيني فتمخضت الشكوك بأمر مهم للغاية، وهو عدم الجزم بمنطقية حاجة الدور للكُتاب! وإلا لماذا تتجرد تلك الدور من دورها الأساسي المتمثل في نشر الثقافة والأدب وتعزيز وجودهما في المجتمع، وتتحول إلى مؤسسات ربحية تبحث عن المادة أكثر من بحثها عن الأدب؟
يقول الروائي يحيى خان: لا وجد استراتيجية لدى عض دور النشر لاحتواء الأديب والكاتب الشاب، من خلال لعمل الأول حتى يكون في المستقبل أديبا معروفا، ويكون للدار فضل عليها ومن ثم تكون إصداراته المستقبلية عبر هذه الدار التي أعطته الفرصة وتبنته ليكون اسما معروفا.(1)
إن في نظري المتواضع، أن تحول دور النشر من استراتيجية الاحتواء الثقافي إلى الربحية هي استراتيجية تسيء للأدب، وأكبر دليل على ذلك هو ما نقرأه بين فترة وأخرى من الأعمال التي لا تليق حتى أن تكون (خربشات على جدران) فكيف بها تزاحم كتب الأدباء والمثقفين على رفوف المكتبات.
وعن تجربة شخصية فقد تناقشت مع بعض المسؤولين في دور النشر، من أجل نشر بعض الأعمال لدي، ولم يتورع بعضهم عن ذكر تفاصيل السعر والتكلفة الإجمالية، قبل أن يقرأ العمل حتى أو يعرضه على لجنة القراءة بالدار. مما يدل أن القيمة الفنية واللغوية والأدبية لم تعد ذات أهمية طالما أن الكاتب سوف يدفع، بل أن سمعة الدار التي قد تنشر الغثاء ليست بذات الأهمية على مستوى المكسب المادي!
لقد ذهلت حين تابعت لقاء الروائي الكبير محمد حسن علوان عبر برنامج إضاءات، حين تحدث عن أنه نشر العمل الأول له بمقابل مادي، فكاتب يكتب بلغة محمد الجميلة والسلسة، لو أنه أحبط حينها ولم يدفع، ألن يكون لفقده خسارة؟!
** ** **
(1) صحيفة اليوم العدد 13215 في 20 أغسطس 2009 م.
- عادل بن مبارك الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
@AaaAm26