ملكة قاومت الذل والهوان وسطرت لوحة من لوحات الشرف في مقاومة المعتدي الغازي، تلك الكلمات ليست مقدمة قصة تحكيها شهرزاد لشهريار في ألف ليلة وليلة ولا حبكة روائية من خيال كاتب؟ إنها إرث تاريخي منسي في ردهات التاريخ وبطون المكتبات!
لنبحر في ذاكرة الأيام وننفض غبار السنين! ففي الألف سنة التي سبقت الميلاد، في تلك الحقبة الزمنية سيطر الآشوريون على مناطق واسعة من الشرق الأدنى بجيوشهم الجرارة ما عدا شمال الجزيرة العربية.
فقد كان عصياً عليهم وصعب المنال بسبب مملكة وحضارة قامت في شمال الجزيرة العربية ولبسط يد الآشوريين على الشرق الأدنى كان لا بد لهم من السيطرة على طرق التجارة ودروب القوافل التي تعبر من خلال جزيرة العرب ولكن العائق أمامهم كان مملكة قيدار وعاصمتها دومة الجندل الحصينة.
يجلس على عرش هذه المملكة ملكة عربية قاومت المحتل وألهمت شعبها وجمعت شتات مواطنيها للنهوض بدولة عربية في جزيرة العرب واتخذت دومة الجندل عاصمةً لها، أطلق عليها «حصن العرب». إنها مملكة قيدار وملكتها (شمسي) قادت شعبها ضد ظلم الآشوريين المعتدين المغتصبين وقاومت طغيانهم وأطماعهم «وحرصت على رعاية مصالح شعبها الاقتصادية والمحافظة على خيرات بلادها» كما رفضت دفع الإتاوة لحكام الدولة الآشورية وتصدت لجيوشهم الجرارة رغم الفارق في العدة والعتاد.
وقفت (شمسي) في وجه الطامع بأرضها ملك الآشوريين (تيجلات بليسر الثالث) حتى هُزمت وأخذت أسيرة عند ملك آشور، إلا أنها لم تستسلم وترضى بالذل والهوان، فثارت على دولة الآشوريين مرة أخرى وقادت جيوشها طالبة العزة والكرامة لشعبها العربي الذي بدوره لم يرضخ ووقف بجانب ملكته لكبح جماح الأطماع الآشورية وإيقاف توسعهم، غيروا بذلك مجرى التاريخ وحفظت لهم بطولاتهم وتضحياتهم، حتى أنه لم يكن هناك ذكر للعرب أو كلمة عرب إلا بعد مملكة قيدار، فأول ذكر للعرب في التاريخ هو ما ذكر في النصوص الآشورية وكان المقصود القبائل العربية التي سكنت دومة الجندل (أدوماتو).
ومع كل هذا التاريخ المشرف المحفوظ في حوليات الآشوريين وآثارهم ألا يحق لنا أن نستفهم استفهاماً استنكارياً؟ لماذا المجتمعات العربية حفظوا تاريخهم وأبرزوا ملكاتهم وجعلوهن رموزاً لشعوبهم وتاريخاً يسترجعونه ليرسم لهم طريق مستقبلهم، أما نحن فقد حاولنا نسيانهن والأدهى من هذا التهميش لتاريخ هذه الملكة، فمن منا لا يعرف كيلوباترا أو شجرة الدر أو الملكة زنوبيا التي ومن غرائب الصدف ونوادر التاريخ هي الملكة الغازية لأدوماتو!
أهذا راجع لطبيعة شعوبنا أم لجهلنا بتاريخنا! ومما لاشك فيه أن نسيان التاريخ يؤدي في النهاية إلى فقدان هوية شعوب وحضارات، قد يكون السبب أيضا اعتمادنا على فكر ورؤية الاستشراق، فكما هو معلوم أن الاستشراق الأوروبي قد حصر دور المرأة في التاريخ العربي في نطاق ضيق ومحدود تسوده النظرة الدونية بدوافع إيديولوجية وحاول إغفال أدوارها القيادية في تاريخنا القديم.
ومن الأسباب الأخرى أن مراكز الثقافة العربية القديمة حاولت الاستئثار برصد وذكر ملكات العرب، اختصت بحضارات بلاد الرافدين ومصر القديمة وأهملت الجزيرة العربية ولعلي أستشهد بجزء من كتابات جواد علي في كتابه المفصل لتوضيح تلك النظرة «لا نستطيع أن نتصور وجود حياة يومية صاخبة أو متغيرة عند أهل الوبر، فحياة البادية في غاية البساطة ساذجة إلى أقصى حدّ من السذاجة» فتكامل رأي المستشرقين مع عرب الشمال في النظرة الدونية لهذا التاريخ.
ولم يقتصر ذكر ملكات شمال الجزيرة العربية على الملكة (شمسي)، فالعديد من الملكات سطر التاريخ وجودهن واحتفل بهن وللذكر لا للحصر الملكات زبيبي ويثيعة ونعلخونو وعادية ملكات حكمن مملكة قيدار في شمال غرب الجزيرة العربية وبنوا حضارة، ومما يبين علو شأنهن ورفعة قدرهن أن ذكرهن أتى بالمساواة مع ذكر فرعون مصر وملك سبأ وشمسي ملكة العرب كما ورد في إحدى النصوص الآشورية مما يدل على مكانتهن العالية في تلك الحقبة، وأنهن بنفس درجة هؤلاء الملوك.
لنحتفل بتاريخنا وتاريخ ملكة سنّت مبادئ المقاومة ضد الظلم والاستبداد وخطت أول حروف معاني الحرية لشعبها.
- د. الوليد عبدالله العيدان