د. عبدالله سعد الرواف ">
هناك حكاية رومانية تقول إنّ إمبراطوراً رومانياً قديماً حكم على مجرميْن بالقتل. فقال له أحدهما لو أمهلتني يا سيدي الإمبراطور سنة واحدة، سأدرب حصانك المفضّل حتى أمكنه من الكلام. فلما عاد إلى زنزانتهما قال له صديقه هل أنت مجنون؟ كيف تستطيع أن تجعل الحصان يتكلم؟ فأجابه:
خلال هذه السنة ربما يموت الإمبراطور أو ربما يموت الحصان أو ربما أموت أنا موتة طبيعية، أو ماذا يدريك لربما أستطيع أن أجعل الحصان يتكلم. الهدف من الحكاية هو أنّ التفاؤل شيء مطلوب في حيات الإنسان. ولكن ما أصعب التفاؤل في التعليم. ذلك أنّ التعليم يختلف عن أي نشاط إنساني آخر. القرارات التي تؤخذ حوله لا تظهر نتائجها إلا بعد سنوات عديدة. والأمر الآخر هو أنّ مستواه يقاس بمقدار منافسته مع التعليم في الدول الأخرى. فإذا كانت القرارات غير سليمة، فإنّ الفجوة ستزداد مما ينعكس سلباً على أمور أخرى كثيرة. ليس هناك شح في الاقتراحات والنصائح التي تدور حول إصلاح التعليم. أولاً من أخطر ما يسوء للتعليم هو ما يمكن تسميته مجازاً بالجهالة المقنّعة بالشهادات التي غالباً تكون في تخصصات أهميتها محدودة أو أن تكون في مواضيع مهمة، ولكن من جامعات ضعيفة في تخصصات دقيقة جانبية. لكي نبدأ في إصلاح التعليم لابد أولاً من التحديد السليم للمشكلة. يمكن تجاوزاً أن نقسم التعليم إلى قسمين جانب نظري مثل التربية والآداب وغيرها، وهنا لا يوجد مشكلة. وجانب علمي مثل الرياضيات والعلوم الأساسية من فيزياء وكيمياء وغيرها والمهن المتفرعة منها من هندسة وحاسب وغيرها وهنا في نظري تقع المشكلة. كليات العلوم في الجامعات والتي تحتوي على أقسام الرياضيات لا يدخلها للأسف في الغالبية العظمي، إلا متدني الدرجات من خريجي الثانوية العامة، مع أنها تخصصات تحتاج إلى مقدرة ذهنية عالية خاصة الرياضيات والفيزياء وهي أساس التعليم العلمي بشكل عام سواء هندسة أو غيرها، وخريجو هذه التخصصات هم مدرسو التعليم العام.
ثانياً الجامعات تقبل خريجي الثانوية العامة على التخصصات وهذا خطأ، فالمفروض أن يكون القبول على الجامعة، وأن يترك للطالب اختيار تخصصه في وقت لاحق من المرحلة الجامعية ( مثل ما هو معمول به في الجامعات الأمريكية) حسب شروط الأقسام، ومن هنا يجب أن يكون هناك فروقات في المستوى بين الجامعات (في كثير من الدول هناك فروقات حتى في التعليم الثانوي وما قبله). فلو لم يكن هناك فروقات في الجامعات الأمريكية مثلاً لما وجدت جامعات متميزة مثل مجموعة الأيفي ليك ( هارفارد، برنستون، ييل، بنسلفينيا .... إلخ) وستانفورد ومعاهد متميزة مثل معهد إم اي تي ومعهد كالفورنيا للتكنولوجيا وغيرها. كذلك في بريطانيا ما يسمى بالأكسوبرج ( أكسفورد وكيمبردج ) وفي اليابان جامعة طوكيو، وهكذا في جميع الدول المتطورة تعتمد في تطورها التكنولوجي بشكل أساسي على جامعات متميزة لا يقبل فيها إلا النخبة من الطلبة المتميزين ولا يدرس فيها إلا النخبة من الأساتذة. وهنا أقترح على وزارة التعليم أن تنشئ معهداً للعلوم والتكنولوجيا (والذي يمكن للقطاع الخاص أن يسهم في إنشائه). يمكن إنشاؤه داخل حرم جامعة الملك سعود ولكن بهيئة مستقلة، حيث تتوفر المختبرات والمباني ولكن لابد من الدقة في اختيار الأساتذة المتميزين من الدول المتطورة، وأن يكون التدريس باللغة الإنكليزية على الأقل في الوقت الحاضر.
في الواقع إنه لمن المستغرب بعد هذه السنين الطويلة من التجربة التعليمية والأموال الطائلة التي صرفت عليه، لم ينشأ مثل هذا المعهد حتى الآن، ووجوده في نظري أصبح ضرورة أساسية.
ثالثاً هناك خلط حول مفهوم البحث العلمي. البحث العلمي ليس هدفاً بحد ذاته وإنما هو وسيلة لأمور أخرى منها التطور الاقتصادي والصناعي والمدني والعسكري وغيرها. كما أنه من الخطأ الاعتقاد أنّ المال بدون ضوابط دقيقة وواضحة يقود تلقائياً إلى تطوير البحث العلمي. بل في كثير من الأحيان يكون ضرره أكثر من نفعه.
التعليم الآن في وضع غير جيد. مخرجاته قبل ثلاثين سنة أفضل من مخرجاته الآن. التعليم لم يصل إلى هذا المستوى الضعيف للأسف إلا بسبب القرارات التي أخذها، أو التي كان يجب أن يأخذه القائمون عليه. مشكلة التعليم ليست مشكلة أو نظريات تربوية كما يحلو للبعض ذكرها. أستاذ المادة غير المتمكن من مادته لا يمكن أن يوصل المعلومة الصحيحة لطلبته مهما تعلم أو استخدم من الوسائل التربوية. كذلك وجود الطالب الذي لديه المقدرة الذهنية والرغبة العلمية هو ضرورة لنجاح العملية العلمية.
التعليم يحتاج إلى فلسفة جديدة. اللوائح القديمة في الجامعات لا بد من مراجعتها. مثلاً يجب تحويل مجالس الأقسام إلى مجالس نيابية وأن يكون هناك امتحانات قياسية تشرف عليها هيئات خارجية تعطى لخريجي جميع الأقسام، وأن يرصد نتائجها ويقارن تطورها سنة بعد سنه. كذلك يجب مراجعة آلية اختيار رؤساء الأقسام والعمداء ووكلاء الجامعات والاستعانة في بعض هذه الأمور بهيئات خارجية حسب ضوابط محددة.
هناك الآن كلام عن استقلالية الجامعات وهذا في نظري سوف يقود إلى تدهور التعليم إذا لم تصلح سلبياته أولاً. أخيراً لا يمكن لمقالة كهذه في جريدة يوميه أن تناقش مشاكل التعليم بشكل وافٍ، ولكن هذا مجرد جانب من أمور كثيرة يجب مراجعتها حول التعليم. والله الموفق.
asarawaf@gmail.com