د. حمزة السالم
الاقتصاد السعودي علم قائم لوحده، والفرصة الذهبية تكمن في اقتصاديات أوبر. وأوبر هو شركة التاكسي الذي يُطلب عن طريق برنامج في الإنترنت. والتاكسي يكون أي شخص يملك سيارة ويريد أن يكسب دخلاً إضافياً بدلاً من إضاعة الوقت. فأوبر استطاع أن يتعدى مشاكل مالية ومعوقات نظامية رئيسية في صناعة التاكسي، ثم حقق قفزة إيجابية تطورية لسوق التاكسي، فضلاً عن تحقيق الأرباح الكبيرة. كما تعدّت إيجابية نتائج ابتكار أوبر الأهداف المالية والسوقية لتحقق نتائج اجتماعية حميدة.
فقد زود أوبر السوق بعدد غير محدود من التاكسي بعد ضيق العرض بالتنظيمات. وتعدى الاحتكارية في التحصيل على رخصة التاكسي. احتكارية جاوزت الملايين لقيمة رخصة التاكسي في نيويورك، فهي اليوم لا تساوي شيئاً. وبنت فكرة أوبر شركة عالمية دخلت عالم الشركات المليارية. وأجبرت الصناعة على الرقي، ومن سافر يدرك الفرق. فما عاد سائق التاكسي مناوراً أو متلاعباً، وما ذلك إلا من قوة منافسة أوبر. فقد زودت أوبر السوق بتاكسي نظيف وسائق راقٍ، قد يكون مديراً لفرع بنكي، أو طالباً يدرس الدكتوراه. فنظام أوبر لا يدفع للسائق مباشرة فحذف البقشيش فشجع أكثر على ركب التاكسي، كما ضمن عدم تلاعب التاكسي بالعداد أو بالدوران في الشوارع، فهو متابع بالأقمار الصناعية. فأي تجاوز من السائق، يطرد ويحسم منه ضمانات وضعت كعقوبات. وقد يجد سائق التاكسي في انتظاره جيشاً من المحامين التابعين لأوبر لملاحقته قضائياً إذا اعتدى على زبون أو نحوه. وكل ذلك بضغطة زر في التلفون، يضغطها الزبون. وهذه كلها توابع أتت بعد ابتداع الفكرة الأساسية.
وقد تجاوزت أرباح أوبر الخصوصية المليارية كما حققت الأرباح الفردية الجيدة. فأوبر حقق أرباحاً كثيرة للسوق وتطويراً هائلاً له دون كلفة، كما زود المجتمع بنافذة عمل يلجأ إليها المفصول من عمله والعاطل. كما خلقت فرصة اقتصادية اجتماعية، يلجأ إليها من يعاني الفراغ، فبدلاً من إضاعة وقته في ارتياد الحانات إذا هو يتكسب رزقاً إضافياً ويستمتع بالمخالطة الاجتماعية. كما زودت أوبر الجهات الأمنية بإشراف ومراقبة ومعلومات جاهزة عند الطلب.
فابتكار أوبر، ابتكار عظيم متعدد ومتعدي الأرباح والمنافع. وهو ابتكار بسيط كذلك. لعله فكرة طرأت على سائق تاكسي انتظر لساعات عند ركن شارع، والركن الآخر به العشرات من الباحثين عن تاكسي. ولعله صدر من محبط عاطل عجز عن تحصيل رخصة تاكسي، أو لعله صدر من ضائق بوقت الفراغ الذي يملكه، فتمنى لو انّ لديه تاكسي يمضي به وقته.
ومن هنا أتى مصطلح اقتصاديات أوبر. فهو مصطلح أطلقته على الحلول الاقتصادية والمالية، البسيطة في فكرتها العظيمة في عوائدها. المتعدية في أرباحها، للخصوصية الفردية، والمتجاوزة في منافعها نطاق سوقها.
وعلى خلاف شركة التاكسي أوبر التي لم تواجه عقبات في بدايتها إنما ثارت عليها صناعة التاكسي بعد نجاحها وتهديدها الخطير والمتحقق للتاكسي التقليدي، فإن اقتصاديات أوبر ستواجه العقبات منذ بداياتها. عقبات فكرية وعقبات مصالحية قد تئدها منذ بداياتها. وأهم العقبات التي تواجه اقتصاديات أوبر عندنا هي انهزامية الفكر الفردي أمام الفكر الجماعي المحلي وانهزاميته أمام الفكر الاقتصادي الغربي. فضلاً عن المعوقات الاعتيادية الأخرى، كالممانعة والتحاسد والخوف على المصالح. فهناك الكثير من المشاكل المالية والاقتصادية في بلادنا والتي يمكن حلها باقتصاديات أوبر، ولكنها تموت في مهدها غالباً بسبب الانهزامية الفكرية أمام الفكر الجماعي والانهزامية أمام بيوت الخبرة الغربية العالمية. اقتصاديات بلادنا لا تحلها نماذج الرياضيات المعقدة التي ما زال الغرب يجربها فهي تورطه أحياناً كثيرة وتنهض به حيناً مرة.
فقد تورطت بعض بلاد أوربا فهي غارقة إلى اليوم، بسبب اتباعها الطريقة الأمريكية في خلقها لصناعة الأدوات المالية التي ابتدعها قرين سبان بعد حادث سبتمبر 2001 . وما نجحت كوريا إلا عندما رفضت اتباع الفكر الأمريكي السياسي الاقتصادي، وهجرته. فقد جربت كوريا ابتداء نظرية السوق الحر والديمقراطية فرأى حكماؤهم توجه بلادهم للهاوية والفوضى بسبب ذلك. فكوريا لم تكن جاهزة بعد للديمقراطية ولا للسوق الحرة. فخلعوا عنهم ثوب الديمقراطية، ونبذوا عنهم تنظيرات السوق الحرة، وقامت الدولة بقيادة اقتصاد البلاد على الطريقة المركزية في تولي الدولة لمهام الإنتاج. فالنهضة السريعة لا تقوم الا بحزم السلطة وقوة المال. فبنت المصانع الضخمة وضبطت النظام ثم تحولت تدريجياً للديمقراطية والسوق الحرة بعد أن غرست في الاقتصاد أساسات النهضة كأوتاد الجبال.
ولا تكاد تجد حالة رئيسية واحدة في بلادنا تتشابه مع أي بلد في العالم، حتى مع دول الخليج. فاختلاف نوعية تشكيلة السكان بيننا وبين دول الخليج، كافٍ ليخلف نظريات الضرائب والبطالة والتجارة الدولية وحساباتها ويخلف نظام النقد. ولا يوجد في الاقتصاد حالة لا تتعلق بغالب هذه الاعتبارات الاقتصادية.
إن ضعف البنية العلمية والتجريبية للمجتمع الاقتصادي السعودي، لهو تربة خصبة للإبداعات بالحلول الاقتصادية البسيطة. فالمجتمع الاقتصادي السعودي مطلع على الأدوات الغربية، وليس متمكنا بها. ولكنه يمتاز بأنه غير محجوب النظر بها. فالأزمة المالية كانت شبه معلنة عاماً قبل وقوعها، ولكن أعمت الموديلات الرياضية المتقدمة، أبصار الخبراء عندهم. فمثلاً علوم تحوط مخاطر تغير الفائدة تُعمي بصيرة وفكر الخبير الأجنبي الضيق التخصص عن ابتداع حل بسيط يليق ببساطة بنية أسواقنا المالية. بينما هذه البساطة مع انعدام الأدوات التحوطية في بلادنا وصعوبة فهمها من الجهات الأخرى، تدفع بالسعودي لابتكار حلول بسيطة هي أعظم نتيجة وأقل كلفة.
إن الاقتصاديات الناشئة تربة خصبة بكر للابتكارات، فإن أضيف لذلك خصوصيات أخرى، كالبترول والثروة والربط بالدولار، أصبحت أكثر خصوبة لولادة الإبداعات الفكرية. فالحاجات كثيرة والحاجة أُم الاختراع. والمجالات مفتوحة فما من مزاحمة. والبصيرة قوية لم تُحجم بالتنظير الغربي. وإنما الخوف من تحجيم العقل بالانهزامية أمام التنظير الغربي. فما من عذر لنا أن نجد حلولنا بأنفسنا بعيداً عن الخبير الأجنبي، فما أقعدنا إلى اليوم إلا اعتمادنا المطلق على الخبير الأجنبي، مع ضيق فكره ونظره على اقتصاديات بلاده، والبلاد التابعة له.
اقتصاديات أوبر هي اقتصاديات برناكي التي ابتكرها في إخراج بلاده من الأزمة المالية. أفكار بسيطة غيرت وجه الحاضر وستغير وجه المستقبل العلمي الاقتصادي. والأفكار العظيمة لا تكون إلا بسيطة، ففكرة فك الارتباط وإطلاق سراح الاقتصاد للنمو، فكرة بسيطة قاربت القرن من الزمن ومازال البعض لم يستوعبها لبساطتها.