مقاربة نقدية في مجموعته القصصية: «أشياء تشبه الحياة» ">
(1) «أشياء تشبه الحياة» نصوص قصصية جديدة لمبدع يدخل الساحة القصصية بكل قوة وجمال وإبداع !!
هذا ملخص لسيرة قاص جديد، يصدر إنجازه القصصي الأول عبر بوابة نادي الباحة الأدبي - الذي يحتضن القدرات الشابة.. والكتابات الأولى، ويقدمهم.. ويعرّف بهم- في الطبعة الأولى التي نشرها دار الانتشار العربي 2015م أواخر عام 1436هـ .
إنه القاص/ الأديب صالح الحسيني الحربي من أبناء المدينة النبوية ومجموعته القصصية بعنوان: أشياء تشبه الحياة ، تحتوي على (25) قصة وأقصوصة!!
* * *
(2) من العتبة العنوانية الرئيسية لهذا العمل السردي نقف عند مفردة «الحياة» التي تستدعي مقابلها اللغوي وهو «الموت» وبين النقيضين تنمو الأشياء ويشعر بها الكائن وجوديا.لذلك نجد هاتين المفردتين تتماهيان في أغلب نصوص المجموعة:
نجدها في (رحيل) ص10-11: «بعد أن تجاوز السبعين» حياة، «قضى نحبه» موت.
وفي (فقد) ص 26-27: «يقف داخل المجمع التجاري جمع من الناس» حياة، «عاد إلى البيت.. معه كل الأشياء إلا الالعاب» موت/ فقد!!
وفي (أشياء تشبه الحياة) ص 28 -31: «من كل مكان يأتيني الماء» حياة، «الماء يقابلني بوجهه الحجري» موت.
وفي (حارة الطيبين) ص 39-41: «ها هي الآن تمر.. ثلاثون عاماً..» حياة، «رحمك الله يا عم سعدون ويا أم بندر ويا عمة حيية ويا شعاع ... ترى أين هي رمزية الآن؟» موت.
وفي (ضمَّة) ص 42، وفي فوز ،عذب الجوى،شغل، من القسم الثاني (ق.ق.ج).
وهذا يعني - دلالياً- أن القاص.. ومجموعة نصوصه تفرد جناحيها باتجاه ثنائية الموت/ الحياة أو العكس. لتقول للقارئ /المتلقي أن حياة النصوص قراءتها، وموتها فراقها والتشاغل عنها!!
* * *
(3) وعندما نمعن النظر فيما بقي من العتبات العنوانية للقصص المنشورة في هذه المجموعة والتي يثبتها مسرد المحتويات ص 5-6 ، يلفت نظرنا النقدي توزعها بين العنوان المفرد، والعنوان الثنائي، والعنوان الثلاثي، ولكل من هذه العنوانات بعدها المتشظي داخل النص القصصي.
وللوقوف عليها إحصائياً سنجد ما يلي:
العنوان المفرد (18) عنواناً.
العنوان الثنائي (5) عناوين.
العنوان الثلاثي (2) عنوانان فقط.
وهذا يدل على هيمنة العنوان المفرد الدال على جزئية متفردة في النص، والتركيز عليها أو التوجه نحو الحدث والغاية فقط. أما العنوانات الثنائية فهي ترمز على الدال والمدلول في صيغة خبرية أو جملة متكونة من مبتدأ وخبر. أما العنوانات الثلاثية فهي تأخذ شكل الجملة المفيدة والمعبرة عما في النص من صور، وتفسير، وموضوع مثل: أشياء تشبه الحياة، زوجة بدل فاقد. ففي هذين العنوانين يلمح القارئ تعدد الدلالة وتوسيع دائرة التلقي.
وعلى أية حال، فإن هذه العنوانات - كعتبات نصية- وبكل الصيغ التي جاءت عليها، فإنها تؤدي دورها في تلقي النص والتواصل مع إحالاته، ولغته، وإشاراته الضمنية، وهذا ما يسمى بالوظيفة الإيحائية /الاستباقية المهمة في توجيه القارئ وخطب وده نحو قراءة المجموعة ونصوصها الفاتنة!!
* * *
(4) وإذا انتقلنا إلى النص القصصي المفضل لدى صاحبه القاص/ المبدع. والذي رقَّاه من كونه نصاً داخلياً إلى عنوان بارز يسم المجموعة كلها، سنجد رمزية الموت والحياة دالان يتحركان في فضاء النص ويجوسان في دياره ألقاً وإبداعاً وقابلية.
هذا النص بعنوان: «أشياء تشبه الحياة» ص 28-31 نجد فيه كل عناصر القصة القصيرة من شخصيات وزمكانية، وحدث، ولغة، وعقدة، وتقنيات الوصف والتصوير ودهشة الختام والمفارقة. وكل ذلك عبر بنية سردية جمالية، يكون فيها الراوي العليم هو المتسيد، وضمير المتكلم هو السائد، «من كل مكان يأتيني الماء» ... «يتراءى لي الآن وجه إبني الصغير».. «ها هو يقابلني بوجهه الحجري» إلخ.. هذه الضمائر الدالة على الذات/ الأنا!!
ويكون فيها جمال الوصف والتصوير، وبلاغة التعبير في لغة سردية مكثفة تحمل أبعادها المجازية والبلاغية:
«عالقة بما يشبه شبكا حديديا كثيفا»..
«دوار لا قبل لي به يُقدم، أشياء تشبه الحياة تعبر...» .. «شفتاي بين شهيق أشبه بريح عاتية، وزفير أسخن من انبعاثات فوهة بركان ملَّ التثاؤب» ...
إلخ هذه الصور المكتنزة بلاغة ولغة ووصفاً وتشبيها حدَّ الإبهار!!
وأخيراً تجيء النهاية المفتوحة، وفعل المفارقة المدهشة عندما يختم القاص نصه بقوله: «منذ ذلك الحين وأنا لا أصافح البحر إلا نظراً.» هذا الختام غير المتوقّع فمنذ البدء يجعلنا القاص بانتظار الموت، ويسحبنا سحباً نحو هذه الفاجعة المنتظرة، فالماء يحيط به من كل مكان، والغرق أقرب إليه من الحياة، والناس تتفرج وتحسبه سباحاً ماهراً يغطيه الموج فيتخيل أمه وأبناءه والمياه تمور به موراً، الكل منشغل بمصافحة الحياة وهو يدافع الموت/ الغرق ... لتنتهي كل هذه الآلام ويخرج من الموت إلى الحياة... ومن الغرق إلى الشاطئ.. لكن البحر يظل عالقاً في نفسه خوفاً وشروداً ونجاة لا يصافحه إلا بالنظرات!! وهنا كمون الدهشة والمفارقة النصيَّة التي تضفي جمالاً بنائياً في ملامح هذه القصة.
* * *
(5) ومن الجماليات اللافتة في هذه المجموعة، التناص الخلاَّق الذي يتفاعل معه القاص باتكاءات نصوصية لها في إرثنا الثقافي والإبداعي مجال كبير.
فنجد التناصات القرآنية:
«تمور بي الدنيا موراً» ص 28 قصة: أشياء تشبه الحياه.
«أشبه بريح عاتية» ص 31 نفس القصة .
«أراني أعصر وجعي» ص 36 نفس القصة.
«لذة للسامعين» ص36 نفس القصة .
«يعد لنا متكأً.. وسكيناً.. وتفاحاً طازجاً» ص 37 قصة الفاكهة.
كما نجد التناصات الشعرية:
«وعشقي يتيم راقه النور في بعدي» ص 15 قصة ملل.
«لكل داء دواء يستطب به.. إلا (بطلة قصتي) أعيت من يداويها» ص 37 قصة الفاكهة.
«عيناها ميناءان للنجوى «ص 43 قصة ضمة.
كما نجد التناصات التراثية (أمثالاً, وحكماً, ولهجة شعبية)
«الدم يحنّ» ص15 قصة ملل.
«إنه رجل كثير الرماد» ص37 قصة الفاكهة.
«وزَّيَّك يا وله عامل ويش» (باللهجة المصرية) ص41 قصة حارة الطيبين .
في هذه التناصات جمالية الاختيار , وجمالية التوظيف, وجمالية الإسقاط, وجمالية البلاغة إجمالاً وتفضيلاً وفي كل ذلك دلالة على ثقافة القاص وأبعادها التراثية والقرآنية والشعرية ومدى قدرته على استثمار هذه الثقافة في بناء نص قصصي يتكامل لغة ويتسامى صوراً, ويتباهى بلاغة وتعبيراً.
* * *
(6) ولا تزال الجماليات النصية تأسر القارئ /المتلقي بمزيد من الصور, والتكثيف اللغوي, والإبداع السردي, ففي قصة (ندم) ص 23-25 نجد اللفتة الذكية من القاص, عند اقتناص الحدث وتطويره - رغم بساطته - إلى منجز قصصي فارهٍ ومكتنز بالتراجيديا المخملية - إذا صح التعبير - فهذه الأخت الصابرة, الشجاعة, ذات «الحزن المعتق». والواقفة على «سرر المروءة «والتي «توضأت بندى أعشاب الأرض والمطر «حتى» هشَّمها نزف الوفاء للآخرين دونما انتباه من أحد» !!
هذه الأخت العظيمة, المتسامحة والمؤثرة «إنسانة في وضوح الصحراء وشموخ الجبال.. رغم أوجاع الزمن التي تسكنها» اختارت الليل والسهر ..»في كفيها الطينية اللون رائحة الأرض.. وبين أناملها أعناق السنابل.. وفي فمها رائحة الحنطة والشعير البكر.. تتألم ولا تتأوه وبقربها أحد.. أبداً.. فقط تبتسم»!!
هنا نجد البعد الإنساني, وصورة جميلة لهذا المرأة /الأخت في لغة نورانية, وأوصاف بليغة, وروعة بيانية مسكونة بالدهشة والإغراء!!
الحدث هنا: خطأ تفوه به الأخ مازحاً مع أخته, شعر بتألمها وحزنها وبكائها جراء ذلك الحدث الأخوي.. اعتذر منها فلم يجد منها إلا كل عفو وصفح ومسامحة, فقط ظل الحزن على محياها مما أورث «الندم لهذا الأخ الذي» ارتمى بين يديها معتذراً, وناجى خاطره» بنبرات محفورة بنصل الأسى»
وكل ذلك يتحول إلى نص فارط الجمال في لغته وإيحاءاته ورمزيته, وتجلياته, لا يملك الناقد إلا الصمت حياله, لأنه الصمت في حرم الجمال جمال - كما يقولون -!!
* * *
(7) وأخيراً نقف عند القسم الثاني من المجموعة وهو قسم الـ(ق.ق.ج) وهو النص الذي أسميته - ذات دراسة نقدية - النص البخيل, ويسميه غيرى نصُّ الحذف والتقشف, ومن سماته وعلاماته: الإيجاز والتكثيف اللغوي, الإضمار, الإيحاء, المفارقة, الدهشة!
وإذا تحاورنا - نقدياً - مع هذه النصوص الوامضة, لوجدنا الكثير من هذه العلامات والسمات, وسنقف معجبين عند القصة (جار) ص 47 , حيث نجد اللغة المكثفة والشاعرية والمفارقة التي ختم بها القصة. وكذلك القصة (شغل ص51)، حيث تبدو الدهشة والإيحاء ولوازمها من ذلك الذي مر بالقبور وانشغل في دنياه!! وأخيراً قصة (انفصال ص 57) وفيها تتنامى الصور من نظرات إلى محبة إلى وئام ثم سكن, ونصل أخيراً إلى الانفصال «تمكن الوشاة»!! وبهذه الخاتمة الإيحائية والتي تضمر الكثير من الفعاليات حتى تحقق هذا المحظور!!
وهكذا تبدو المقدرة الفائقة للقاص صالح الحسيني لاختزال المواقف والأحداث في لغة موجزة (معبرة)موحية ومدهشة. مما يدل على التمكن اللغوي والأبهار القصصي!!
وبذلك يحق لقارئ مثلي أن يبارك لهذا القاص /المبدع طلته الأولى على المشهد الثقافي بهذا المنجز القصصي الناضج والذي سيكون, مؤرقاً له لإنجاز أعمال أخرى أكثر نضجاً وبروزاً فهو في موقف التحد ي مع نفسه الأمّارة بفن السرد القصصي وهو أهل لذلك إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين
د. يوسف حسن العارف - جدة