اضطلع الشعرُ بدورِه السياسي في نصرة الدين والذودِ عن حياضه وهجاءِ أعدائِه، فكان الشعرُ منبراً للدفاعِ عن الدينِ منذُ أوائلِ العصرِ الإسلامي، ويحفظ التاريخُ في سجلِّهِ أسماءً لامعةً في سماءِ الشعرِ كحسان بن ثابت ومالكِ بن الريب وعبد الله بن رواحه رضي اللهُ عنهم، وكان صلى اللهُ عليه وسلم يعجبُه الشعرُ ويُمدحُ به وكان يقول لحسان (اُهجهم وروحُ القدسِ معك) ويقولُ (لهذا أشدُ عليهم من وقعِ النبل) فالشاعرُ قائدُ رأي وصاحبُ رؤية فضلاً عمّا قد يصحُ من تنبؤهِ وتوقعهِ.
والشعرُ المُنصف الذي ينبعُ من عقيدةٍ وينطقُ عن حقائقٍ ويدحضُ شُبهاتٍ ويورِدُ الحُججَ ويردُّ المزاعمَ الكاذبةَ هو جهادٌ بالكلمة وإعلاءٌ للحق، حتى كان اللسانُ رفيقاً للسنان على مر العصور، فكان رفيق المشهدِ ووقائعِ الأحداثِ فحكى تطلعاتِ الأمةِ وسجّلَ الوقائع وقدّم خُلاصةَ فِكرِ المثقف وعبّر عن آمالِ الناس، فجاز أن نقول إن الشعرَ هو شاهدُ العصر ومُدوِّنُ التاريخ.
وهو في ذات الحين يعكسُ نُبلَ الشاعرِ وقيَمَهُ وأخلاقَه ويجسدُ وطنيّتَه وإنسانيتَه ويصفُ بُعدَ نظرِه وقراءتَهُ للمشهد ويؤكد دخولهُ في استثناء الآية {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} ولا شك أن الشاعر عندما يوظفُ شِعرهُ في نُصرةِ الحق وحماية الحقوق و توضيح الحقائق وإعلاء القيَم والدعوةِ إلى سبيلِ الهُدى ومحاربةِ الضلالِ ،فهو حينها يجسدُ مثالا للإنسانيةِ والنُبلِ والاستقامة.
وقد أثنى الحبيبُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على حسّان حين ردَّ على مَن هجاه، وقد وُصف بيته الذي قال فيه:
أتهجوه ولستَ لهُ بندٍّ
فشرُكما لخيرِكما الفداءُ!
بأنه أنصفُ بيتٍ قالته العرب!
ومن جميل ما قرأت مما قيل في عاصفة الحزم ما قاله أمير الشعر خالد الفيصل :
ويوم صاح الجار قمنا واستجبنا
السعودي بالمواقف ما يمنّي!
السعودي لا تنادوا قال حنّا
من طعن أرض الوطن رمحه طعنّي!
جاك رد الفعل يا مهدد وطنّا
خذ جواب الحرب دامك تمتحنّي!
وفي هذه الأبيات وما يظهر فيها وفي كل القصائد التي قيلت في عاصفة الحزم من شعراء الوطن الذين أجادوا وأفادوا تظهرُ روحُ الحماسةِ والفداء، إلاّ أني رأيت في هذه الأبيات شيئاً مختلفاً فضلاً عما فيه من حماسةٍ وقوةٍ وصدقِ تعبير، ففيه لمحات بلاغية استرعت انتباهي في تنوّع الضمائر والالتفات بين ناء الفاعلين في (قمنا واستجبنا) وياء المتكلم ثم واو الجماعة وضمير المتكلم (عن الجمع) ثم العودة إلى ياء المتكلم، ثم جمع كل ذلك في ياء المتكلم في مفرد يمثل الجمع فيقول:
ويوم صاح الجار قمنا واستجبنا .. في إشارة إلى الاستجابةِ السريعةِ والقويةِ لتلبيةِ نداءَ الاستغاثة وهي طلبُ الجار للنجدةِ، وكلمةُ الجار مفردة ولكنها تمثّل شعباً (جمع) أو قد تمثلُ رئيسَ الشعبِ الذي يتحدثُ عن الشعبِ وبلسانِ الشعبِ، وتأتي الاستجابة بصيغةِ الجمع في (قمنا واستجبنا) وهو تصريح يحمل مشاعر جميع أفراد الشعب السعودي الذي من عادته أن يغيث الملهوف ويحمل الكَل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، ثم يتحول بالخطاب إلى الفرد (السعودي) الذي يلتزم بمبادئه ويقف ثابتاً دونها، ويؤكد في البيت التالي:
السعودي - وهنا الحديث عن مفرد -
لا تنادَوا - وهنا الحديث عن جمع -
فالبيت يؤكد على نخوة الفرد الذي هو لَبِنة الجماعة وعلى لُحمة الشعب ووقوفه صفّاً واحداً خلف قيادته حتى أنه لفرط انتمائه يتكلم عن الجميع (قال حِنّا!)
ثم يعود ليُجمل كل تلك الإشارات والإيحاءات - بعد أن أكّدَ وِحدة الصف وعُمق الانتماء - ليتكلم بلسان الجميع كشعب فيقول:
من طعن أرض الوطن رمحه طعنّي!
فكل الشعب يرى وطنه جزءاً منه يدافعُ عنه ويُعلي رايته!
جاك رد الفعل يا مهدد وطنّا!
خذ جواب الحرب دامك تمتحنّي!
فيقول بلسان الشعب: قد أتاك الرد (يا مهدد وطنّا) وقد وصل بتدرّجه من الفرد السعودي إلى اللسان الجمعي (وطنّا)
خذ جواب الحرب دامك تمتحنّي!
والمعنى هنا ليس جواباً للحرب بل خذِ الحربَ جواباً للتهديد!
(.. دامك تمتحنِّي!) باللسانِ الجَمعي كشعب!
ليس ذلك فقط بل إن قوله (رد الفعل) تأكيد على أن الحرب جاءت ردّا لتهديد وليس ابتداءً كاعتداء، وإن قال المولى جلَّ وعلا (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن اللهَ لا يحبُ المعتدين) فقد قال سبحانه في موضعٍ آخر: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}.
- ماجد بن عبد الله الغامدي