د. عادل علي جوده ">
يزدحم الوقت بأعباء المسؤوليات الملقاة على عاتق كل منا، ويختلف تقدير هذه الأعباء ومستوى التفاعل معها من شخص إلى آخر؛ فالبعض يجد في نفسه استعدادًا للعطاء، وحسًّا بالأمانة، وحرصًا على دقة الأداء، ومعايشة لكل كبيرة وصغيرة تأخذ بيده لبلوغ الهدف بأبهى صورة وأعذب شعور، وحتمًا ينطلق كل ذلك من إيمان راسخ بقول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ» [أخرجه الطبراني وحسنه الألباني].
والبعض الآخر ينظر إلى المسؤولية بعين ضيقة، فيراها كما لو كانت عبئًا ثقيلاً على كاهله؛ إن قام بتأدية أي عمل تنتابه حالة من التذمر المشحون بانقباض الصدر، وعبوس الوجه، وارتخاء المفاصل، وتكرار الشكوى لمن حوله كما لو أن ظلم الدنيا كله يقع عليه وحده دون غيره، مما يجعل أداءه لعمله خاليًا من أبسط معايير الدقة والإتقان.
تُرى ـ في إطار مقارنة كهذه ـ ألا يستحق البعض الأول كلمة شكر ترفع من عزيمته، وتشد من عضده، وتمنحه شيئًا من حقه، والله سبحانه وتعالى يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ...} [سورة لقمان: آية 14]، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ» [رواه أحمد والترمذي وحسنه] .
وخير من تستحق الشكر، بل يتقزم الشكر أمام قامتها ـ وهي لا تنتظره ـ هي الأم، وما أدراك ما الأم، فأي اللغات توفّيها حقها، أو تترجم خصالها، أو تصف شيئًا من سهرها، وتعبها، وخوفها، وقلقها!
أقول هذا، وأحمل ندائي لمن لم يزل يسعد بوجود أمه من حوله، فليقم من فوره إلى حضنها، وليقبل جبينها، ويدها، وقدمها، فإن نال رضاها فقد فاز؛ وإنه لعمري لنعم الفوز، وأخص بندائي، أو لأقل بصرختي، أخًا أحب له الخير، وأتلهف لأن يزدان قلبه، ويزدهي فكره، وتسمو روحه، بحلاوة برّه بوالديه وعذوبة رضاهما عنه.
ومَن سكنته الغصة مثلي، فليرفع أكف الضراعة إلى الله جل في علاه ويدعو لها بالرحمة والمغفرة والفردوس الأعلى من الجنة،
وأدعو: رحمك الله يا أمي وشكر لك وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة؛
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم معاناتك في حملي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم آلامك في ولادتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم فرحتك حينما سمعت صرختي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم سعادتك وأنت تحممينني، وتلبسينني، وتمشطين لي شعري، وتهتمين بكل شؤوني،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم ترقُّبك لكل حركاتي وسكناتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم حنانك وأنت ترضعينني،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم خوفك وسهرك أثناء مرضي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم ندائك لضحكتي، وجلستي، وخطوتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم لهفتك لسماع (ماما)؛ وهي الوحيدة غنوتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم بهائك وأنت تهيئينني للمدرسة وترتبين لي شنطتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم وجعك لغيبتي وانتظارك لعودتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم دموعك فرحةً بتفوقي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم ههاويك وزغاريدك حين تخرجي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم عذاباتك وأنت تودعينني لأبدأ غربتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم لوعاتك وأنت تترقبين رسائلي وتقرئين شكوتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم فزَّتك وإقبالك حين عودتي لقضاء إجازتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم روعتك وأنت تزينين بفرحتك عرسي وزفَّتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم حبّك واحتضانك لأبنائي وزوجتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم وفائك وعطائك وعجزي وقلة حيلتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم حزني على رحيلك وغصَّتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك بحجم حاجتي لأن تمسحي لي دمعتي،
رحمك الله يا أمي وشكراً لك؛ فأنت النبض الذي؛
يَسْكُنُ جَوًى فِي كَيَانِي
وَيَسْبَحُ نَدًى فِي سَمَائِي
وَيَجْرِي دَمًا فِي عُرُوقِي
وَيَسْرِي مَدًى فِي حُرُوفِي
- كاتب فلسطيني