نواصل مع ترجمتنا لمختارات من دراسة البروفيسور بيورن أولاف أوتفيك وهي الدراسة الأولى ضمن «مختارات د. حمد العيسى-دراسات نادرة» وهو مشروع شخصي دشنه كاتب هذه السطور مؤخرا. البروفيسور بيورن أولاف أوتفيك هو أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في قسم الدراسات الثقافية واللغات الشرقية، كلية العلوم الإنسانية ، جامعة أوسلو، مملكة النرويج. ونشرت الدراسة في يونيو 2014:
وكان كلا الاتجاهين (السياسي واللاسياسي) ممثلا بوضوح في الحركة السلفية المصرية. وعلى وجه الخصوص، ظهر اتجاهان سلفيان متميزان في الحركة الطلابية العريضة في السبعينيات: (أ) الجماعة الإسلامية، التي دخلت في حرب مفتوحة باسم الجهاد ضدالسلطات المصرية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، و(ب) الدعوةالسلفية التي فضلت الانسحاب من الحياة السياسية والتركيز على نشر الدعوة والسلوك الأخلاقي المستقيم. الأولى كانت قاعدتها الرئيسة في صعيد مصر، والثانية في الإسكندرية. وينبغي الإشارة هنا إلى أنه في الأصل كان توجه الحركة الطلابية بكاملها سلفيا. وتكمن بداياتها المبكرة كرد فعل جيل جديد من الطلاب من الطبقة الوسطىالدنيا (Lower Middle Class) أوحتى من العمال والفلاحين على ثقافة علمانية راسخة في الجامعات في السنوات الأخيرة لحكم جمال عبدالناصر (ح. 1952- 1970) وبداية حكم أنور السادات (ح. 1970-1981). ونشأ هذا الجيل الطلابي الجديد في وقت كان فيه الوجودالعام للإخوان المسلمين شبه معدوم بسبب القمع العنيف الذي مارسته الدولة عليهم منذ عام 1954. وسلك الطلاب - خلال بحثهم عن الإسلام الكامل- طريقهم إلىمساجد تهيمن عليهاحركات سلفية من الطرازالقديم في مصر كـ «الجمعية الشرعية»و«أنصارالسنة المحمدية»، اللتين تأسستا في عامي 1912 و1926 علىالتوالي. (26) وكان أول مشروع جلي لهم لتنظيم الطلاب في حُرُمْ الجامعات هوجمع الطلاب لأداء صلاة الجماعة، ومكافحة لخمور وما اعتبروه ملابس غير لائقة للفتيات.
خيبة أمل سلفية
بسبب رخاوة الإخوان الدينية
أحد العوامل التي ساعدت على صنع تغيير تدريجي بين الغالبية العظمى من الإسلامويين الشباب كان عودة ظهور الإخوان المسلمين علىالساحة في بداية السبعينيات بعدما بدأ الرئيس الجديد أنورالسادات بالإفراج عن العديد منهم من السجون، وبسرعة تطورت روابط بين أولئك الإسلامويين المخضرمين والطلاب الشباب الذين اعتادوا في السنوات الأولىعلى دعوة متحدثين دينيين من مختلف الاتجاهات لاجتماعاتهم. الاتصال المبكر بين قيادات الإخوان المفرج عنهم لم يخل من التوتر. فمن جهة،كان الطلاب الشباب يكنون أعظم الإحترام للإخوان المسلمين بسبب ماعانوه في سبيل الإسلام. وحصل الطلاب على الإلهام من خبرة الإخوان الواسعة وتطورأفكارهم التنظيمية والإيديولوجية والسياسية? نسبيا ?. وعلىالعموم،كان لدى الإخوان رؤية أكثرشمولا عن معنى النضال من أجل قضية الإسلام مما لدى أولئك الطلاب وتجاربهم المحدودة مع التيار السلفي. ومن ناحية أخرى،كان الإخوان أقل اهتماما من السلفيين بكثير بتفاصيل الملابس والسلوك الشخصي. لقدكانوا بالتأكيد أبعد ما يمكن عن الليبراليين في هذا الصدد ولكن حدثت صدمة للطلاب الشباب عندما اكتشفوا أن مرشد جماعة الإخوان عمر التلمساني كان مولعا بالموسيقى وخاصة المطربة أم كلثوم وأنه يعزف على العود في المنزل!! وبالمثل،كان من الصعب على الطلاب الشباب قبول حقيقة أن بعض قيادات الإخوان تبدي اهتماما بكرة القدم. (27)
ولكن في النهاية انجذبت أغلبية الحركة الطلابية نحو الإخوان، وبحلول أواخرعام 1979انضمت أعدادكبيرة من الطلاب النشطاء إلى تنظيم الإخوان. وأثناء تلك العملية انسلخوا عن ثقافتهم السلفية الأصلية. وكان من اللافت في مطلع عام 1980 أن الزعيم الطلابي عصام العريان (نائب رئيس حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين) وبخ السلفيين لعدم رؤية جوهر رسالة الإسلام بوضوح بسبب غابة من السواك تحجب الرؤية عنهم. (28) والإشارة هنا لسنة تنظيف الأسنان بالسواك وهو غصن من شجرة الأراك حيث يعتقد السلفيون بوجوب تقليد النبي في استعماله.
ولكن كماذكرنا آنفا رفض اتجاهان متميزان داخل الحركة الطلابية الانضمام للإخوان المسلمين، معتبرينهم منحرفين عن إسلام السلف النقي بسبب التراخي الأخلاقي المتصور للإخوان فيما يتعلق بقواعد السلوك الأخلاقي الشخصي. ولكن بالنسبة للجماعة الإسلامية التي أصبحت لاحقا سيئة السمعة في الغرب، فقد كان نقدهم الحاسم للإخوان المسلمين هو لأنهم رفضوا الكفاح المسلح ضد الدولة، واختاروا بدلا من ذلك– بوصف قيادات الجماعة الاسلامية- التكيف الجبان مع دولة مستبدة والتي تعتبرها الجماعة الاسلامية بالهام من كتابات سيد قطب في السجن تمثل عودة للجاهلية. وشاركت الجماعة الاسلامية في اغتيال الرئيس السادات في عام 1981،وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات بدأت بحرب عصابات على نطاق صغير ضدالسلطات بما في ذلك هجمات إرهابية ضدالأجانب والأقلية المسيحية في مصر. وسحقت الحكومة التمرد. وفي عام 1997 دعت القيادة التاريخية للجماعة الإسلامية أنصارها للتخلي عن الكفاح المسلح والعودة إلى العمل السلمي من أجل الإصلاح الإسلامي. وبالرغم من حدوث انتكاسة نجمت عن مذبحة السياح في أواخر عام 1997، والتي ارتكبها أفراد مارقين من الجماعة الإسلامية، إلا أنه ابتداءً من عام 1998حصلت مبادرة الإصلاح تدريجيا على دعم الغالبية العظمى من أعضاء الجماعة الإسلامية. (29)
وتبع قرار التخلي عن العنف مراجعة شاملة لفكرالجماعة. وكان أهم نتائج تلك المراجعة أربعة كتب تحت عنوان سلسلة تصحيح المفاهيم. ووضع قادة الجماعة فيها نقدا ذاتيا واسعا وحددوا مبادئ توجيهية للعمل المستقبلي لتعزيز قضية الإسلام في المجتمع المصري. كما قرروا أن الحكم بتكفير أي شخص يقر بأنه مسلم يعتبر مرفوضا لا بل يعتبر بدعة منكرة. ولكن القرار الأكثر أهمية وعمقا كان العمل برأي المفكرين الإصلاحيين المسلمين منذ عهد جمال الدين الأفغاني في التأكيد على أولوية الصالح العام للمجتمع على النص، وأولوية المبادئ على التفاصيل. كما دعوا إلى تطوير فقه يناسب الواقع لتوجيه تصرفات الناشطين الاسلاميين. أما بالنسبة للجهاد، فقد جادل قادة الجماعة الآن أن الجهاد المسلح يجب أن يكون فقط لمواجهة الغزو الأجنبي. (30)
وتشير أيديولوجية الجماعة المنقحة أن العمل من أجل الإصلاح الإسلامي يجب أن يتم من خلال العمل السياسي السلمي. وبعد الإفراج عن معظم قادة الجماعة الاسلامية الرئيسيين في وقت مبكر من العشرية الأولى ،قاموا بالعديد من المبادرات لإنشاء أحزاب سياسية ولكن السلطات قيدت نشاطهم بشدة. ولكن تمكن قادة الجماعة الاسلامية من إطلاق موقع على شبكة الانترنت باسم الجماعة الاسلامية. وبعد ثورة25 يناير عام 011، شكلت الجماعة الإسلامية حزب البناء والتنمية،(31) الذي كان جزءا من التحالف السلفي البرلماني في انتخابات 2011-2012.
ورفضت مجموعة أخرى داخل الحركة الطلابية الإسلامية الأصلية مركزها لإسكندرية العمل السياسي تماما مفضلة التركيز على الدعوة إلىالتقوى والإستقامة الشخصية. هذه المجموعة شكلت«جمعية الدعوةالسلفية»، والتي في نهايةالمطاف برز كل من محمدعبدالفتاح وياسر برهام كقادة رئيسيين لها (*). وكان هدف الدعوة السلفية هو تنقية العقيدة فضلا عن الممارسات الاجتماعية والدينية للمسلمين المصريين وفقا لفهم الجمعية لدين السلف الحق. وبالتالي، تألف العمل الرئيسي للدعوة السلفية من الوعظ وتعليم أعداد متزايدة من الأتباع. ولكن الدعوة السلفية طورت منذ الثمانينيات نشاطا هاما في العمل الخيري. وبالرغم من رفض الدعوة السلفية للعمل السياسي فقد كانت في اتساع نشاطها وكذلك في الانضباط والتماسك التنظيمي تشبه الإخوان المسلمين وكذلك الشبكات السلفية القديمة كالجمعية الشرعية وأنصارالسنة. وخلال حكم مبارك (1981-2011)، تسببت قلة النشاط السياسي العام نوعا ما في حماية الدعوة السلفية من القوة الكاملة لقمع الدولة الذي وقع على الإخوان المسلمين والجهاديين. وبالتالي، استطاعت الدعوة السلفية زيادة نشاطها وتعزيز نفوذها بشكل كبير على مرالسنين. وعندما اندلعت الثورة في25 يناير 2011،أمر مشايخ الدعوة السلفية في البداية أتباعهم بعدم المشاركة وفقا للمبدأ السلفي الذي يأمر بطاعة الحاكم الحالي أي ولي لأمر. ثم في الأيام الأخيرة قبل سقوط مبارك تغيرت لهجة خطاب الدعوة السلفية إلى تقدير إيجابي للثورة وشرعنة الدعوة للتغيير. وفي أعقاب الثورة، أنشأ سلفيون عاديون حزب النور ليكون بمثابة الذراع السياسي للدعوة السلفية. (32) وكما رأينا خلال الانتخابات البرلمانية، برز حزب النور باعتباره القوة السياسية المهيمنة بين السلفيين.
عالم السياسة المُدَنَّس: عام 2011 وما بعده
ماذا حدث عندما دخل السلفيون السياسة الحزبية في مصر بعدالثورة؟!
في الواقع سيدهش المراقب عند قراءة برنامج حزب النور وهو أكبر حزب سلفي، لكثرة تماثله مع برنامج الإخوان المسلمين وليس لكثرة الاختلافات بينهما. هناك التزام قوي للحكم عبر النواب المنتخبين من الشعب واستخدام واضح لكلمة «الديمقراطية» للدلالة على النظام السياسي المرغوب فيه. ويرتبط بهذا إدانة صريحة للحكم الثيوقراطي (الديني) ولفكرة أن بعض الناس يمكنهم الحديث باسمالله. وفي الوقت نفسه، يبعد حزب النور نفسه عن العلمانية التي ينتقدها لمحاولتها فصل النظام السياسي عن القيم الراسخة في المجتمع المصري بالرغم من أن البرنامج لايحدد هذه القيم ولا معنى المحافظة عليها. وفي موضوع ساخن آخر يختلف فيه السلفيون تقليديا عن التيارات الإسلاموية الأكثر تحررا، وهو الموقف من النساء يبدو برنامج حزب النور مجددا كصدى لفكر الإخوان. إنه يقوم بعمل توازن بين الحفاظ على الأسرة والدور التكاملي للرجال والنساء، مع التأكيد علىالحاجة لتحسين وضع المرأة من خلال تطوير التعليم ومكافحة العنف ضد النساء وخاصة من أفراد الأسرة.
** ** **
هوامش المترجم:
(*) مؤسس جمعية الدعوة السلفية ورئيسها السابق هو الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم (م. 1952) ورئيسها الحالي هو الشيخ المهندس محمد عبد الفتاح أبو إدريس (م. 1954) ونائب رئيسها هو الشيخ الدكتور ياسر حسين برهامي (م. 1952) وهو المفوض بالعمل السياسي المباشر لعدم رغبة وتعفف الرئيسين السابق والحالي من الخوض فيها. (العيسى)
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى