كتبتُ كثيراً في هذه الجريدة عن أهمية المحافظة على اللغة العربية، سواء كانت بضرورة التفاعل مع مناسبة اليوم العالمي لها، أو على سبيل الإشادة بأدوار بعض الجهات الحكومية، كانت جامعات أم وزارات، أو على سبيل نقد بعض التصرفات غير المسئولة، كعناوين المحلات والأسواق الكبيرة، وتفضيلها لغة غير اللغة الأم، وليس بخاف اهتمام الدولة باللغة العربية، منذ قيامها وحتى وقتنا الحاضر،
وقد تضمنت المادة الأولى من مواد النظام الأساسي للحكم في المملكة الآتي «المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة دينها الإسلام ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم «ولغتها هي اللغة العربية» وعاصمتها الرياض» ولا عجب أن رأينا ولمسنا وشاهدنا اهتمام ولاة أمرنا بشأن لغتنا، فخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أيده الله، صدح بهذا الأمر يوم قال « بلادنا المملكة العربية السعودية دولة عربية أصيلة، جعلت اللغة العربية أساساً لأنظمتها جميعاً، وهي تؤسس تعليمها على هذه اللغة الشريفة، وتدعم حضورها في مختلف المجالات، وقد تأسست الكليات والأقسام والمعاهد وكراسي البحث في داخل المملكة وخارجها لدعم اللغة العربية وتعليمها وتعلمها، ثم تأسس مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، ليكون مرجعاً وأساساً معتمداً للغة العربية، وتمثيلاً للمملكة خارجياً في شؤون اللغة العربية وخدمتها» وهو هنا - حفظه الله- يشير باهتمام إلى اهتمام أخيه الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - بجناب اللغة العربية وإنشائه لمركزها الدولي ومقره الرياض، هذا المركز الذي نراه اليوم، يؤتي ثماره وأزهاره، المتمثلة بتفاعلاته في المناسبات المتنوعة، وإصداراته الجميلة، التي تبعث الحماسة وتعلي الهمّة، صوب لغة القرآن الكريم، خشية أن تصاب بالعطب، في خضم هيجان التقنية الحديثة.
اللغة العربية، هويّة المملكة العربية السعودية، ومن أجلّ خصائصها التي تنفرد بها عن بلاد العالمين، فرضت مجالاتها وتطبيقاتها في مختلف المجالات والقطاعات، ليأتي مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية، تتويجاً لاهتمام الدولة وقادتها الأمناء، لا أنها وظيفة محصورة بفرد أو مؤسسة، بقدر ما هي ثابتة من ثوابت الدولة الرئيسة، يوليها قادتها جانباً رئيساً من اهتماماتهم المتوالية.
ما دعاني لكتابة هذه المقالة الخاطفة، باقة متنوعة من إصدارات مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية، وصلتني هدية من مسئوليه الكرام، وعند تقليبي وتصفّحي لهذه الإصدارات، إصداراً إصداراً، ذُهلت لهذه الجهود الحثيثة التي يبذلها هذا المركز بقاماته الصادقة والمخلصة، ولاشك أنه جهد كبير جداً، ومتنوع، ذو ذائقة مشرئبة، يطير بها المطلّع، فرحاً وثقةً، بأن لغتنا لم تزل محفوظة، طالما هؤلاء النخبة، يتولون شأنها، ويصونون جنابها، وفي تصوّري أن مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية، وهو مركز دولي يُعنى بشئونها داخلياً وخارجياً، في مناسباتها ومحافلها العربية والدولية، أعتبره شخصياً من أثمن هدايا هذه الدولة، للحفاظ على لغة القرآن، كما أنه في تصوّري قد أُحسن اختيار من يقود دفة هذا الجهاز الشريف، ودون أدنى شك، قيادته شرف كبير وأي شرف!
فالدكتور عبدالله الوشمي الأمين العام لمركز الملك عبدالله للغة العربية، قامة فكرية، ليس بالوسع جهلها، حاضر في المشهد الثقافي والشعري بقوة، شاعر وابن شاعر، لا يعرفني ولا أعرفه، ولم ألتقه البتة، ولا بيني وبينه لغة تواصل، لكنه خطف إعجابي بشخصيته، من خلال ترأسه لنادي الرياض الأدبي في فترته السابقة، ومن خلال مشاركاته هنا وهناك، سواء كانت مقالية أو شعرية، أو مشاركاته المتعددة في الفعاليات الثقافية والأدبية داخل المملكة وخارجها، وحصوله على عدد من الجوائز في فنه، من خلال دواوينه الشعرية، لا يلوي للمهاترات الثورية، كما غيره، حصر اهتماماته في تخصصه، وقد أشاد به بعض زملائي وأصدقائي، بما يتحلى به من تواضع وهدوء وثقافة حاضرة، وعشق لمهنته ووطنه، وتمسك ظاهر بأمور دينه، ولا أخاله، إلا علماً من أعلام هذا الوطن، أراه يشق طريقاً للمجد والسؤدد، ينتظره مستقبل زاهر بإذن الله، بصماته في مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية، واضحة جلية، وهو لم يزل جديد عهد به.
اللغة العربية، وهي اللغة الأم، نراها اليوم، تُذبح عنوة من الوريد إلى الوريد، من خلال ما نلاحظه من تجاهل لها في اللوحات الإعلانية أو مسميات الشركات والمولات، أو من خلال الاستادات الرياضية ومعلقي المباريات، ويتحسر الغيور عليها عندما يلاحظ أكاديميين في مواقع التواصل الاجتماعي «تويتر» خاصة، لا يحسنون التفريق بين همزة الوصل وهمزة القطع، أو التاء المربوطة والتاء المفتوحة، أو جوانب نحوية، كنصب الفاعل ورفع المفعول به، وهي من أبجديات التعليم في المراحل التعليمية الأولية، مما يشير بعدم اهتمام تلك المراحل وحتى الجامعات في جناب لغتنا الحية، والتي تزخر بالمترادفات، تعجز اللغات الأخرى أن تحويها، وحافظ إبراهيم، يقول في شأنها:
(أنا البحر في أحشائه الدر كامن...فهل سألوا الغواص عن صدفاتي)
الدكتور عبدالله الوشمي من خلال مهامه، يُعوّل عليه أساطين اللغة، الكثير والكثير للإبحار بسفينة لغة القرآن، إلى سواحل النجاة، من عبث العابثين الساخرين، غير المكترثين بقيمتها، اعتزازا لها، وبمن حملها لنا، من علمائها الأخيار رحمهم الله، وهي فرصة ثمينة لأخينا الفاضل «الوشمي» أن يُسطّر مجده، عبر بوابة هذا المركز الفاخر، والفرص لا تتكرر، أعانه الله، ووفقه وجميع العاملين معه في هذا المرفق النبيل والمشرّف .. ودمتم بخير.
- د. محمد أحمد الجوير
dr-al -jwair@ hotmail.com