1 - صدمة التلقي:
في عشرية الثمانينات من القرن الماضي تكاثرت الدراسات الألسنية في النقد العربي الحديث؛ مشكلِّةً تياراً نقدياً متصاعداً ما لبث أن استفرد تدريجياً بالساحة الأدبية حتى يومنا هذا،
وعكست هذه الدراسات صدى متأخراً لنشاط النقد الألسني في الغرب؛ ولا سيما في فرنسا منذ العِقد الثاني من القرن العشرين، ولأن نشاط هذه التيارات الألسنية في نقدنا العربي جاء متأخراً كثيراً عن بدء نشاطها في منبعها؛ فقد تقاطرت إلينا بصورة جماعية ومتزامنة؛ دون أن يكون هناك فواصل زمنية كافية لاستيعابها أولاً، وإدراك البُعد الجدلي التعاقبي بين مناهجها المتوالدة ثانياً، وهكذا ظهرت لدينا بصورة متزامنة: البنيوية، والسيميائية، والتفكيكية، ونظريات القراءة والتلقي، والتداولية، والحِجاج.
في البدء كان النقد العربي واقعاً تحت تأثير الصدمة «الألسنية» بعد عقود من استمراء المناهج النقدية التقليدية: التاريخية، والنفسية، والاجتماعية، ووصول الدراسات الأدبية معها إلى حدّ التشبع والمراوحة العبثية، ولأول مرة في تاريخ الثقافة العربية أصبح المشرق العربي تابعاً في كثير من أطروحاته النقدية للمغرب العربي الذي نشط نُقّاده في التنظير والترجمة لهذه المناهج النصية الجديدة؛ مع استثناءات قليلة لنقّاد مشرقيين استمدوا مباشرة من «الأصل» الغربي لهذه المناهج.
2 - الجملة المغربية:
منذ القديم كان أدباء المغرب العربي -ومنهم أدباء الأندلس- يشعرون بالفرق النوعي بينهم وبين أدباء المشرق من حيث القدرة على الصياغة البيانية والشعرية المتألِّقة، وفي عصرنا الحديث كرّر الشاعر والناقد الليبي: خليفة التليسي تسجيل هذه الملحوظة، أمّا المفكر المعروف محمد الجابري فقد رصد تميز المغرب العربي بالفكر البرهاني الأرسطي في مقابل بيانية المشرق العربي من جهة، وتهويماته العرفانية من جهة أخرى!
وهكذا فقد راجت في عشرية الثمانينات -وما تزال- الشكوى المتكررة من صعوبة الاستيعاب الدقيق للمفاهيم النظرية لهذه المناهج الجديدة؛ أولاً بسبب جِدّة التناول المنهجي والفلسفي في هذه المناهج، وثانياً بسبب أن معظم المشاركين في الكتابة عنها: تأليفاً، وترجمةً كانوا من النقّاد المغاربة الذين امتازوا بأسلوب خاص في الكتابة يتسِم بالتركيز الشديد على السياقات المفاهيمية الجافة والمجرّدة للأفكار النقدية التي يُرام تفسيرها للقارئ؛ مع احتفال واضح بترديد المصطلحات الأجنبية، هذا بالإضافة إلى سمة: الطول المفرِط للجملة لديهم، وارتخاء الترابط المعنوي بين ألفاظها وتراكيبها، وهو ما يشتت ذهن المتلقي، ويُربِك فعالية الفهم والاستيعاب لديه، وهكذا بات لدينا مشكلتان متوازيتان: مشكلة في الاستيعاب الدقيق للمناهج النقدية الحديثة، ومشكلة في التعبير الأمثل عن أطروحاتها، ومن هنا جاء كتاب: الخطيئة والتكفير للناقد «المشرقي» السعودي عبدالله الغذامي في وقته المناسب تماماً: منتصف الثمانينات؛ ليجلّي قدْراً من الغموض الذي صاحب وفود هذه المناهج الغربية إلى النقد العربي، ثم تكاثرتْ بعده الدراسات المشرقية؛ غير أننا لم نلبث بعد ذلك حتى بدأنا نرصد عدداً متزايداً من الكتابات النقدية لنقّاد مشرقيين متأثرة بطريقة الكتابة المغربية في عرض المفاهيم، والتركيز على المصطلحات، وانتهاج الأسلوب المغربي الخاص في الصياغة !
3 - جحافل النقّاد المدْرسيين:
والواقع أن قدَر هذه المناهج النقدية الحديثة لم يرتبط فحسب بالمشكلتين السابقتين: مشكلة الاستيعاب، ومشكلة: التعبير، بل كانت هناك مشكلة ثالثة متصلة بمسيرة النقد الأدبي والعلوم الإنسانية بعامة في الغرب، فقد شهِد القرن العشرون انعطاف هذه العلوم نحو الصبغة «العلمية»، وطمح المشتغلون فيها إلى أن تتصِف العلوم الإنسانية بما تتصف به العلوم الطبيعية من ضبط معرفي ومنهج تجريبي دقيق، وكانت النافذة التي سمحت لهذا الطموح بالعبور -كما يقول ليفي شترواس- هي: علم اللغة الألسني، وقد أدّى هذا الانعطاف «العلمي» في ميدان النقد الأدبي إلى أن يتخلى النقاد عن شرط: اتصاف الناقد الأدبي بالقدرة الفطرية على التذوق الفني، والإحساس بالجمال؛ لأن النقد أصبح علماً ألسنياً لا علاقة له بالفن، وغدا مرتبطاً أكثر من أي وقت سابق بالأُطُر الفكرية الجافة، والتنظيرات الفلسفية المجرّدة، ومن هنا دخلتْ إلى الحقل النقدي جحافل النقاد «العلميين» المدْرسيين الذين كانت قراءاتهم في التنظير المنهجي، والتأطير الفكري أكثر بكثير من قراءاتهم للأعمال الأدبية المتميزة: شعراً ونثراً، وهو ما جعلهم يفقدون التوازن الضروري المطلوب في قراءات الناقد بين الأعمال الإبداعية، والنظريات النقدية، هذا بالإضافة إلى قصور بيِّن في الذائقة الأدبية لدى كثير منهم، ووصل الأمر عند بعضهم إلى إخلال واضح بأصول الصياغة اللغوية السليمة والتعبير الواضح والدقيق.
4- بضاعة السكّاكي رُدّت إلينا:
بدءاً من القرن السابع الهجري دخلت البلاغة البيانية الناقدة والمبدعة عند الجاحظ، وابن رشيق، وعبدالقاهر الجرجاني في طور جديد على يد أبي يعقوب السكاكي (ت 626هـ)، فقد أراد تحويل الملحوظات النقدية لدى أسلافه إلى قواعد مدْرسية؛ ليسهل استيعابها على صغار المتأدِّبين، وقد اتكأ على علم المنطق ومقاييسه العقلية لتحقيق هذا المشروع؛ وبهذا تحولت «الملحوظات» النقدية التي كانت قابلة للأخذ والردّ عند النقّاد السابقين إلى «قواعد» صارمة، وتقسيمات هيكلية مقنّنة تتعامل مع النصوص البليغة بطريقة آلية جافة، وتحولت النصوص الأدبية -وهي عمدة التذوق السليم- إلى مجرد «شواهد» صمّاء لهذه القواعد، وأصبح الناقد أو البلاغي غير مستعد للإصغاء إلى النغمة الذاتية الخاصة بالنص الأدبي، لأن وكْده متّجه إلى رصد السمات الفنية المشتركة التي تنتظم ضمن القواعد البلاغية المسبّقة، وهكذا لم يعد مقبولاً من النص أن يُفاجئ الناقد أو البلاغي بما لم يعرفه من قبل، أو أن يستفزّ حسه النقدي؛ لاكتشاف خصوصيته الأسلوبية الذاتية التي لا يشترك فيها مع أيّ نص آخر؛ لأن بوصلة الاهتمام انتقلت من النص إلى القاعدة، ومن الاستكشاف إلى المعيارية، ومن الفنّ إلى العلم !
والآن يبدو أن النقد الأدبي الحديث يُعيد تقليب صفحاته القديمة مرة أخرى! ألا تُشبه فتنة النقاد المعاصرين بالمناهج الألسنية «العلمية» فتنة البلاغيين القدامى بعلم المنطق الأرسطي ومقاييسه العقلية؟ أليست الرغبة هي نفسها: تحويل التذوق الفني إلى علم مقنّن؟ وتحويل الملحوظات إلى قواعد، وأساليب التناول المتنوِّعة إلى آليات موحّدة ومكررة؟
وخذْ مثلاً أحد المناهج النقدية التي فُتِن بها نقّادنا المعاصرون: الحِجاج؛ أليست آليات التناول النقدي فيه مزيجاً من قواعد المنطق، وأُصول الفقه؛ لكنْ أُعيد ترشيحها، و»هنْدمتها» بلباس غربي؟ ألا يُهدِر هذا المنهج طاقة الناقد ليبحث في النص عن شواهد: الحُجَج، وروابطها، ونتائجها، وليصنِّف الأقيسة المنطقية فيه، ويُعدِّد وسائله الحِجاجية في الإقناع، وليُحصي عدد المرات التي انكسر فيها التسلسل المنطقي للأفكار؟.. ثم ماذا؟.. هل استطاع هذا «المحصول» الحِجاجي في النهاية أن يُقدِّم إلى القارئ تفسيراً مقنِعاً لجمال هذا النص الأدبي وسرّ تأثيره فينا، وأن يكشف أسباب خصوصيته الفنية؟ وما الذي يميّز هذا النص عن أيّ نص «نفعي» آخر؛ كنصوص الأنظمة والفِكْر والعلوم التي تمتلك قْدراً أكبر من وسائل الحِجاج، وآلياته، وأقيسته، وبأسلوب ربما أكثر إقناعاً ومنطقية؟
بكلمة واحدة وأخيرة: النقد الأدبي -في عصر الآلة- قد توحّش ! وليس هذا فحسب، بل إنه ما يزال يتجه نحو مزيد من التوحّش والآلية الميكانيكية مع توالد هذه المناهج الألسنية الوظيفية التي تخلّت عن مهمة النقد الأدبي الأساسية، وهي: تحليل الجماليات اللغوية والفنية في النص، والكشف عن أبعاده الإنسانية والشعورية؛ مستعيضةً عن هذا كله بالتحليل الحسابي الجامد للآليات المنطقية والحُجَج الفكرية التي تنطوي عليها النصوص، وها نحن في أوساطنا الأكاديمية نجد أنفسنا محاصَرين بجيوش النقّاد الآليين الذين راحوا بمعدّاتهم الثقيلة يحرثون حقول الأدب اليانعة؛ بحثاً عن الأسلحة والذخائر والفِخاخ المتربِّصة !
- د. سامي العجلان