د. هلال محمد العسكر ">
أنماط المديرين ومصطلحاتهم الإدارية كثيرة، ولا يمكن حصرها، لأنها بين الحين والآخر، تظهر أنماط ومصطلحات جديدة، ولا يتم التعرف عليها إلا بعد حين، ومن خلال سلوك وممارسات أصحابها.
مصطلح «النخبة» في المجتمع الإداري جديد -نسبياً- وهو ترجمة للكلمة الإنجليزية «elites» وتعني «الجدارة والاستحقاق»، أو «النخبة»، والنخبة تعتمد على نسبة الذكاء، بالإضافة إلى الجهد (القدرة) لتحقيق ذلك الذكاء؛ أي أن الإدارة في نظر مدراء (النخبة) يجب أن تكون لأصحاب الجدارة والاستحقاق، والنخب القادرة، وليس لأصحاب الحظوة والمال والواسطة، وأهل التملق وغيرهم ممن يصلون للمناصب الإدارية، وهم ليسوا من النخبة.
نحن هنا، لا نريد الخوض في المفهوم الاجتماعي، أو السياسي لهذا المصطلح، ولكن نتحدث عنه فقط، من خلال مفهومه الإداري، ومعرفتنا بأفكار وممارسات بعض النخب من المديرين، الذين يشعرون أنهم أصحاب جدارة واستحقاق، ويؤمنون بالتباين، ويصرون على أن المقترحات والأفكار يجب أن تقيم بعقلانية شديدة، حسب الميزات الكامنة فيها، وحسب قيمتها الحقيقية المطلقة بالنسبة لهم شخصياً؛ والذين لا يرون العالم من حولهم إلا بمنظور الأبيض والأسود فقط، دونما ألوان، وحتى دونما ظلال رمادية، وجميع القرارات عندهم يجب أن تمر عبر جهاز يعمل على وزن المزايا، ولا مجال عندهم لأن تلعب العواطف والأحاسيس والمشاعر والانفعالات أي دور على الإطلاق، ويبدون أحياناً وكأن الواحد منهم يعيش في كون لا وجود له إلا في ذهنه.
إن النخبوية المثالية ذات العقلانية الصارمة، توجد في الغالب في الشيء «المثالي»، مع أنه لا تساورنا أية شكوك، أن كمالاً من هذا النوع يندر أن يوجد فعلياً، ولكن النخبوية، تصر على المثالية والعقلنة الصارمة، وترفض أن تستوعب أن طبيعة الحياة فيها ألوان وأطياف ومشاعر وانفعالات وأحاسيس واختلافات، قد يكون منها ما هو بديع وسار ونافع، وما هو مستحب، بل وما هو واجب، وإن كان يخالف العقل والمنطق!
إن كثيراً من الإداريين يقع في فخ السلوك الإداري (النخبوي) أكثر مما يدركون أو يعترفون به، وهم، إذ يفعلون ذلك، يجعلون من أنفسهم عرضة للأحكام الخاطئة، والزلات الإدارية التي قد تلحق الضرر بحياتهم المهنية، لكونهم مثاليين أكثر من المثالية نفسها، وعقلانيين بصرامة لا يحتملها الواقع، ولا تؤيدها نواميس الكون، ولكنهم من أشد الناس الذين يدافعون عن المثاليات دفاعاً لا يعرف الكلل، ما دامت هذه المثاليات هي مثالياتهم هم، ولكونهم يطبقون هذه المثالية والعقلانية المتناهية الصرامة على غيرهم بهدف السيطرة والاستحواذ والتفرد، ولا يرضون أن تطبق عليهم، ولكونهم مصابون بالصمم العاطفي، الذي جعلهم غير مبالين بمشاعر الآخرين، بل وجعلهم يعتبرونها أخطاء لا تغتفر، ولكونهم لا يرون طريقة صحيحة لإنجاز الأمور، إلا طريقتهم هم، ولكونهم لا يدركون أن ما يرونه خطأ، قد يراه غيرهم صواباً، والعكس، ولكونهم مصابين بحساسية شديدة من الأفكار الفاضلة ومن أصحابها، وحساسيتهم هذه تدفعهم أحياناً إلى الرغبة في خنق كل أفكار لم تصدر عنهم، أو منهم أو بناء على موافقتهم، وحتى تكميم أفواه أصحابها إن استطاعوا، ولكونهم يميلون ويصرون أحياناً على وضع الحلول التي تؤدي إلى حدوث مشاكل لا حلول لها، وإن وجد لها حلول، فهي مكلفة جداً في الوقت والجهد والمال، ولكونهم يخفقون -بسبب عدم السماح بوجود رأي آخر، ووجود أفكار إبداعية، تسهم بشكل جماعي في حل المشكلات وعمليات التطوير والتغيير، ولكونهم يبالغون بصواب آرائهم على الدوام، وصواب تفكيرهم على الدوام، وصواب تصرفاتهم على الدوام، وصواب حتى أخطائهم التي تفوق الخيال!
إن المخاطر الحقيقية لنمط «مدراء النخبة» كثيرة، وخطيرة للغاية، وأقلها أنهم بإمكانهم إعاقة نجاح مرؤوسيهم حتى لو لم يلحظ أحد، غيرهم، أي دليل على وجود مثل هذا السلوك، وأنه بإمكانهم الانتقام.
بطريقة مغلفة بغلاف مقتضيات الأمور، وبروتوكولات النظام والتنظيم، ودواعي التغيير والتطوير وغيرها من المسالك «العقلانية الصارمة» التي تنتهي بالتهميش والتطفيش والتغييب والتغريب وقتل الحافز والإبداع.
حقيقة، ليس من السهل العمل مع «مدراء النخبة»، لأنهم يقضون جزءاً، لا بأس به، من الوقت في التحدث عن أفكارهم، ويرغبون في أن يشهد لهم أنهم دائماً على صواب، وأن خططهم العشوائية خير معالج للمشكلات المطروحة، وأن زملاءهم يفتقرون للبصيرة، ولا يرون الحقيقة، وأن الواجب هو الانحياز إلى جانبهم على الفور، ويريدون أن يؤيدون حتى في غضبهم، كما أنهم يريدون أن يصغى إليهم ويتعاطف معهم بشأن عدم إمكانيتهم جعل الآخرين يرون قيمة أفكارهم، وأن ينساق الكل معهم، وهم على مرأى من الجميع. يديرون المنشأة إلى الشلل والضعف والانحراف، وعدم تحقيق الأهداف، وذلك بسبب أساليبهم التعسفية البالية ومحاولاتهم اليائسة في الوصول للمثالية الصارمة التي لا توجد إلا في رؤوسهم وأدمغتهم المتصلبة.
إن الحقيقة التي يجهلها هؤلاء المدراء، أن الإتقان والريادة والتميز، وغيرها من الشعارات الطموحة في المجتمع الإداري، لا يمكن تحقيقها بالمثالية الصارمة، ولا بالعواطف الصماء، ولا بمنظور شديد التباين، بعيد عن الواقع؛ فالإتقان يساوي مزايا فكرة ما مضروبة في المهارة اللازمة لتطبيقها، والريادة هي دالة على التقدم الذي نحن مسؤولون عنه، أكثر من كونها دالة على الأفكار الجيدة التي نحملها، والتميز البعيد عن الإيجابية تمايز، ولذلك يصاب أفراد المجتمع الإداري بالصدمة حينما يقتربون من «مدراء النخبة»، لأنهم يحملون مثل هذه الأفكار المثالية، إلى درجة عدم وجودها على أرض الواقع، أو حتى قبولها من أفراد المجتمع، وأسوأ ما يمكن تصوره، أن يعيش «مدراء النخبة» وأمثالهم معزولين بسبب مثاليتهم الصارمة، وأفكارهم التي يرون أنها إبداعية وخلاقة، وهي بالتأكيد ليست كذلك، وأن يعيش كل من هو تحت سلطتهم، في كدر ونكد وصدمة تلو صدمة.