د. محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح ">
كنتُ بصحبة الشيخ الزاهد سعد الحصين رحمه الله في إحدى الدول الإسلامية فرأيتُ من الشيخ حرصاً على إغلاق الإضاءة التي لا يستفاد منها داخل الفندق، فقلت له ممازحاً: هذه الإضاءة ليست تحت وزارة أخيكم! فنحن خارج المملكة، فأجاب بعد ابتسامة لطيفة: الله يهديك الإسراف لا أرض له.
واحرَّ قلباه من أفعال يظهر منها: غَمْطٌ لنِعمٍ أكرمنا الله بها، ومحبةٌ لشهرة حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وادِّعاءٌ مفتعل للكرم، وتصنّعٌ جاهلي لإكرام ضيف، في مظهر مُسفٍّ، وتصرُّف مخلٌّ ليس من الكرم و الجود في شيء، بل أفعال منكرة، ومفاخرات يندى لها جبين العقلاء لا يُقرُّها شرع، ولا عقل، فمتى كان غسل اليد بعد الأكل بدهن العود كرماً ومنقبة! ومتى كان وضع أكياس القهوة ونثر ما فيها أمام الضيوف محمدة! وفي أي عقل كان استخدام المال لإمساك الدلة جوداً ومكرمة! بل أي سفه بلغ بأولئك حتى خَرَجَ من جعل دم ابنه محلاً لغسل الأيدي في تمثيل محرم، وكذب مفضوح، إلى غيرها من الصور التي لا تقلُّ سخفاً وجهلاً .
ألا حزم يؤدبهم، وحازم يأخذ على أيديهم.
إن تلك الأفعال المشينة قد جمعت عدداً من المحرمات، من إسراف، وتبذير، وكفر للنعمة، ومفاخرة وافتخار بين الناس، والله يقول: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، ويقول: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}.
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} قيل: معناه: ولا تسرفوا في الإعطاء، فتعطوا فوق المعروف.
وقال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فأنزل الله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ}.
ونقل أبو هلال العسكري في فروقه اللغوية ما نصه:(ليس الإسراف متعلقاً بالمال فقط، بل بكل شيء وضع في غير موضعه اللائق به.
ألا ترى أن الله سبحانه وصف قوم لوط بالإسراف لوضعهم البذر في غير المحرث، فقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}.
ووصف فرعون بالإسراف بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ}.
فإن الإسراف والذنوب مؤذن بزوال النعم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان من دعائه «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك» رواه مسلم.
فالحذر الحذر من الإسراف في: المأكل، والمشرب، والملبس، والمركب، والمنزل، وكذلك الحذر من الإسراف الحاصل في المساجد كزخرفتها وبناء القبب عليها، وكذلك الحذر من الإسراف في المياه، والكهرباء، وغيرها، وعلى المؤسسات الحكومية والأهلية الحذر من ذلك الذنب، والبعد عن ارتكابه، وعلى مؤسسات التعليم مشكورة بذل المزيد في توعية الناشئة حول الإسراف والتبذير وخطرهما على المجتمع.
فإن هذا الذنب وهو الإسراف قد انتشر عند كثير من الناس : الكبار والصغار، والرجال والنساء، في المناسبات والحفلات، حضراً وسفراً.
قال ابن القيم رحمه الله: (من عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم، وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا لسبب ذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة)، وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}، فأخبر الله تعالى أنه لا يغيِّر نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه فإذا غَيَّر غُيِّرَ عليه جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد، فإن غيَّر المعصية بالطاعة غيَّر الله عليه العقوبة بالعافية، والذل بالعز، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}... [فالذنوب ومنها الإسراف والتبذير] تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فتزيل الحاصل، وتمنع الواصل، فإن نِعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته، ولا استجلب مفقودها بمثل طاعته... وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سبباً وآفة تبطله، فجعل أسباب نعمه الجالبة لها: طاعته، وآفاتها المانعة منها: معصيته، فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها، ومن العجب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره، وسماعاً لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله كأنه مستثني من هذه الجملة أو مخصوص من هذا العموم، وكأن هذا أمر جار على الناس لا عليه، وواصل إلى الخلق لا إليه، فأي جهل أبلغ من هذا، وأي ظلم للنفس فوق هذا).
وقال رحمه الله: (ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه: إنما هو مخالفة أمره، وعصيان رسله.
وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل: إذا كنت في نعمة فارعها...
فإن المعاصي تزيل النعم فما حُفظتْ نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس).
وكلام ابن القيم هذا عظيم القدر لمن تأمله.
فلنشكر الله على نعمه كلها باستعمالها في طاعته، والبعد عن الإسراف والنأي عنه، ولنحمده عليها، ولنجعل نصب أعيننا قوله سبحانه:(بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) فجمع بين الأمر بالتوحيد والأمر بالشكر.
فتقوى الله مطلوبة من الجميع، والبعد عما يوجب سخطه، وسَلْب نعمته واجب على الرعاة والرعية، قال الله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: (يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة، ويستأصلها بالعذاب أمر مترفيها أمراً قدرياً ففسقوا فيها واشتد طغيانهم، {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي: كلمة العذاب التي لا مرد لها {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}).
فاللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء