يزيد بن عبد الله النجاشي ">
إن شيوع الفساد بكافة أنواعه ومنه الفساد الإداري الذي يستعر في أرجاء من العالم العربي والإسلامي خصوصاً، لأمر يُؤجج المشاعر ويدفع أُولي الاختصاص إلى مواجهته ومكافحته ومعالجته كل بما يستطيع وقدر طاقته ووسعه وعلمه، وإن من أعظم ما يواجه أولئك الغيورين على أمتهم وأوطانهم ومؤسسات بلادهم ويصعب مهمتهم هو ذلك الصمت السلبي تجاه ذلك الفساد وأهله، وإن أولى ما يجب عليهم وأول خطوات يفترض أن يبدؤوا بها هي نفخ الصافرات في وجوه الفساد والمفسدين والخروج من حالة الصمت السلبي الذي يجلب معه الصغار وهدر الكرامة الإنسانية وضياع الحقوق في كثير من الأحيان قبل كونه سبباً في تخلف المنظمات وتفشي الفساد واستفحاله وتمكنه حتى يضيق المكان على الحق وأهله ولا تسأل بعد ذلك عن الأداء والإنتاجية ورضا العاملين وتحقيق الكفاية للبلاد وسد حاجة العباد وتحقيق الأهداف التي ينبغي لها أن تتحقق لولا تفشي هذا الوباء الخبيث الذي يتطلب حسن تشخيص ومعالجة.
ومن المدهش حقاً أن هذا الموضوع رغم أهميته وشيوعه إلا أنه من أقل المواضيع تناولاً ودراسة على مستوى العالم العربي، ولعل من أسباب ذلك حداثته نسبياً إلا أن واقعنا يحتم علينا أن نسبر غواره، وأن نوليه مزيداً من البحث والدراسة عسى أن يكون ذلك سبباً في إضافة الجديد الذي ينفع مجتمعاتنا وأوطاننا وأمتنا ويقدم تشخيصاً وافياً وعلاجاً ضافياً لهذا الوباء.
وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ من القارئ الكريم عن ماهية الصمت التنظيمي الذي نتحدث عنه؟ لأجيبه بتباين وجهات النظر إزاء تحديد تعريف جامعٍ مانعٍ لهذا الموضوع ولكنها تدور حول جوهر واحد, ولعل من أبرز هذه التعاريف وأجمعها ما عرفه به أ.د. عامر بن خضير الكبيسي بقوله: «هو الحالة أو الموقف الذي يجعل العاملين يمسكون المعلومات ويمتنعون عن إيصالها أو الإدلاء بها ويتحفظون على الأسرار والانطباعات والأخبار تجاه أجواء العمل وقضاياه عن قصد وتعمد أو يترددون في ذلك لأي سبب وسواء كان الأمر يتعلق بمديريهم أو بزملائهم أو بسلوك المنظمة والمتعاملين معها».
ولا شك أن هناك أسباباً تدفع إلى هذا الصمت، فقناعة البعض من الأفراد به وتبنيهم له في جميع أمورهم الحياتية كونه الأفضل والأسلم له دور كبير، بل ربما يتبنى الإنسان نشر هذه الثقافة في أبنائه ومحيطه تجنباً للمصادمات أو ولوغاً في وحول التملُّق والمجاملات ولو على حساب ضياع الحقوق وانتشار الفساد وتسلط المفسدين، ولا شك أن هذا نوع من الضعف والخور، وإن تلبّس أحياناً بلباس التروي والحكمة! والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, ومن الأسباب كذلك التعامل مع قيادات قمعية أوتوقراطية سلطوية تفضل التنفيذ وعدم المناقشة والمحاورة ولا تسمح بالمشاركة، وهذا النمط من القيادات القديمة لا يزال البعض منه موجوداً رغم التحضُّر الكبير في علم القيادة الإدارية في هذا الزمن والذي يحارب مثل هذه الاتجاهات والصمت عنهم حينئذ أخطر من غيرهم. وإن كنا نرى طبيعة بعض الأعمال تتطلب جانباً من الصمت في حدود معينة لكن يفترض أن لا يطغى ذلك على جوانب أخرى لا يحسن التعامل معها بذات التعامل! كما أن هناك صمتاً تفرضه الأزمات والكوارث المفاجئة بما يجعل المسؤول لا يجد تفسيرات واضحة فيفضل الصمت وهذا ليس مبرراً له في كل الأحوال، فإن من واجب القادة والمسؤولين أيضاً أن يصدر منهم التشخيص السليم والقراءة الصحيحة للواقع والتنبؤ بالمستقبل لطرد الشائعات ودرء الفتنة وجمع الكلمة.
وليعلم القارئ الكريم أننا لا نلوم كل صامت ولا نثني على كل متكلم أو نافخ مناهض! بل لكل حالاته التي يمتدح فيها وحالاته الأخرى التي يكون فيها مذموماً، فقد يكون الصمت مبرراً في المنظمات التي يصعب فيها التواصل بين أعضائها لتباين أفكارهم واهتماماتهم واختلافهم لغاتهم، وقد يكون سلاحاً يشهره البعض في وجوه المفسدين ويتبلور ذلك في الهجر والابتعاد ولكنه علاج لا ينجح غالباً إلا إذا كانت قبله علاقة وطيدة حميمة بين المتهاجرين ليحصل المقصود منه، وإلا فالصمت عندئذ لا ينفع، ولا يضر إلا صاحبه ولن يبالي به ذلك المهجور بل قد يفرح به ويعتبره فكاكاً وتخلصاً من اللوم والعتاب، والوجه الآخر لهذا السلاح حين لا يجد المرء مجالاً غيره فيشهره بصحبة بعض التصرفات التي تبين حالة من عدم الرضا واللوم والعتاب.. كما تتطلب بعض المواقف الصمت الحكيم الذي يواجه الانفعالات التي تضر أكثر من نفعها، وما أجمل الصمت النابع من احترام الذات والترفع عن مواطن السفول وترك الجدال الذي يقسي القلوب ويوغر الصدور بلا فائدة تذكر، وقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت بربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، ومن الصمت المحمود أيضاً التغافل عن الهفوات اليسيرة التي لا تستدعي تضخيمها وقد قيل «تسعة أعشار الخلق في التغافل»، ويبقى أن ننوه على أمر مهم وهو أن كسر حاجز الصمت ونفخ الصافرات في وجوه الفساد وأهله ينبغي أن يرافقه تعقل واتزان ومراعاة للمصالح والمفاسد وأن لا تكون عند كل صغيرة وكبيرة فتفقد هيبتها وقوتها ويحرق الإنسان بذلك أوراقه كلها حتى إذا جاء وقت استخدامها الحقيقي تحسّر على عدم نفعها وأنه يبح صوته دون جدوى!
وإننا ندرك أن الصمت بوجهه السلبي بلا شكٍ لا يزال منتشراً في واقع منظماتنا المعاصرة! فلا يكاد مجلس يخلو من فضفضة يحاول المرء أن ينفس بها عن ضيق يؤلمه ويخرج شيئاً يخالجه لم يستطع البوح به تجاه منظمته أو مديره أو زميله! ولا سيما حين يقترن ذلك بتصرفات ظالمة لا تراعي ديناً ونظاماً ولا عدلاً وخلقاً من قيادات غير كفؤ تسلطوا على عباد الله ونسوا أن الله لا يرضى بالظلم وسيواجههم بما عملوا{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} (30) سورة آل عمران.. فكم من طالبٍ يشكو ظلم مدرسه وبخسه حقه في درجته وعاملٍ يشكو تأخر صرف راتبه وموظفٍ يتألم لمنع ترقيته ظلماً وهلم جراً من المواقف التي لا يكاد يخلو منها مجلس! وقد تجد بعضاً منها يرجع إلى ضعف ثقافة المرء بحقوقه وعدم معرفته بها مما يحتم على كل مرء أن يبحث ويسأل ويعرف ما له وما عليه وكيف يوصل شكواه نظامياً وهذه مسؤوليته هو، كما تتساءل عن حال قيادات بعض المنظمات حين يوصدون الأبواب في وجوه الناصحين أو لا يتواصلون شخصياً مع من دونهم من رعيتهم ويتفقدون أحوالهم كما كان حال خير البرية صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين - رضي الله عنهم - وينسون أنهم محاسبون ومسؤولون فـ»كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» وتراهم يقربون غير الأكفاء من أصحاب العدل والخلق والديانة وقد ظلموا بذلك أنفسهم قبل الناس نسأل الله السلامة والعافية.
كما ينبغي على كافات الجهات الرقابية أن تبرز الطرق الموصلة إليها وإلى أولي الشأن والأمر والتي يقصدها كل مريد لخير أو محذر من شر وأن توفر الحصانة الكافية لهم وهذا ما نلمسه بحمد الله في قياداتنا العليا على مستوى البلاد وما نسمعهم دوماً يرددونه فإن الصمت على الفساد والمفسدين والصمت المتولد عن عدم الرضا والشعور بالغبن والظلم لا يرضاه الله تعالى وله عواقب وخيمة على كافة المستويات، كما أن له آثاراً جلية تنخر في عضد المنظمات وتعيق تقدمها وتشيع الفرقة بين أعضائها وتزعزع الثقة بينهم، وهو أرض خصبة لنمو التحزبات والانقسامات والصراعات التنظيمية السلبية، ويزرع اللا مبالاة في النفوس والسلبية في التصرفات، وقد يضلل الجهات الرقابية حين تراه شائعاً فتظنه دليلاً على الارتياح والانسجام والإنجاز وهو ليس كذلك.
وفي الجملة لا يزال هذا الموضوع غامضاً رغم وجوده وانتشاره ويحتاج إلى نفض الغبار عنه ليتبين للناس ويحسنوا التعامل معه فهو بوابةٌ كبيرةٌ للإصلاح وفي ذات الوقت بوابةٌ أخرى نحتاج لإغلاقها في وجه الفساد الإداري الذي يزحف وينخر في مجتمعاتنا ومنظماتنا ويهدد أمننا وأوطاننا في الدول العربية والإسلامية، والله أعلم.