تمارا سمير البغدادي ">
الأم هي المربي الأول للأبناء؛ فهي التي تنمي الفكر، وتوجّه السلوك، وتقوّمه, وتبني القِيم التي تعزز الانتماء الوطني؛ فتربي أطفالها على القِيم الأصيلة، وتُشعرهم بمكانتهم وقيمتهم عند انتمائهم لوطنهم، وتحصنهم من الانحراف الفكري. ومن منطلق ذلك فإننا نتكلم عمَّن يبني المجتمع؛ فبدونها يصبح المجتمع ركيكاً خالياً من التطوُّر والازدهار. وجود الأم الواعية أصبح ضرورة من ضروريات الحياة. وعلى المجتمع أن يحفظ حقوقها، ويقدرها؛ لترتقي به، ونحصل على الوطن المتكامل.
لكلمة الوطن وَقْعٌ كبير في قلوبنا؛ فهي كلمة عظيمة، تحمل معاني متعددة: الاستقرار والأمن والانتماء.. ومن المهم إبقاء هذه المعاني راسخة في نفوس أبنائنا، وتعميق حبهم لوطنهم؛ فنزرع فيهم الدفاع عنه، والمحافظة عليه، وطاعة أولي الأمر، من خلال تعريفهم بواجباتهم نحوه، وحقه عليهم، والعمل لمصلحته؛ وبذلك نعمق روح الانتماء.
إن دور الأم مهم؛ فهي تُعتبر حجر الأساس لبناء الوطن. كيف نبني وطناً بأجياله ونحن لا نُعنى بمن يسلِّمهم لنا؛ ليمضوا بنا نحو مستقبل أفضل؟ كل مجتمع يطمح ليرتقي بأبنائه للأفضل. وللوصول لهذا الهدف النبيل لنُعد أمهات المستقبل؛ ليكُنَّ جاهزات لتحمُّل المسؤولية وتنشئة أبنائنا على أسس سوية وفكر وسطي مطابق لديننا. من هنا يتبادر لذهني بعض التساؤلات: كيف نطلب منهن أن يغرزن في نفوس أبنائنا معاني الحرية والمساواة وهن يتعرضن لظلم منا نحن المجتمع؛ فنحرمهن من أبسط حقوقهن التي منحهن إياها ديننا الحنيف؟ ونطلب منهن تعليم أبنائنا الشجاعة وهن لا يستطعن الدفاع عن أنفسهن؟ ففاقد الشيء لا يعطيه!
التحدُّث عن دور الأم لا يمكن اختصاره بمقالات. نعرف جيداً نحن الأمهات أن علينا واجبات، ولكن في ظل منظومة «مجتمع ذكوري بحت» فإن العلاقة غير متوازنة. كيف لي أنا الأم أن أقوم بواجبي تجاه مجتمعي وأنا غير مهيأة ومحرومة من أبسط حقوقي؛ لأتمكن من القيام بواجباتي؟ كيف يطلب مني المجتمع أن أتجنب المغالاة والتطرف الفكري والاهتمام بعقول أطفالي، وأستثيرهم فكرياً، وأُربيهم على التفكير الناقد الإيجابي، والمجتمع لا يبالي بعقلي، ولا يمنحني حقوقي؟ كيف لي أن أُنشئ جيلاً قادراً على التمييز بين الأفكار الصالحة والطالحة، وقادراً على الحوار وتقبُّل الآخر دون تحيُّز، وأنا أتعرض بشكل يومي لقمع من قِبل مجتمعي؟ على المجتمع أن يُفعّل دوري، ويزيد من مساحة مشاركتي به، ويرفع من مكانتي؛ لأبني بناة الوطن.
نعيش حالياً واقعاً أليماً، هو واقع الإرهاب الفكري والديني، لمن ظنوا أنهم يحسنون صنعاً وهم الأخسرون أعمالاً. قبل تحليل مفهوم الإرهاب أو معناه كمنظومة فلنتحدث عن الضحية: ذلك الشاب الذي يقتل الغير، ويفجِّر نفسه، ويخضع لغسيل الدماغ، ويكون لعبة في أيدي خفافيش الظلام. إن الإرهابي هو شخص يحارب الأفكار والمعتقدات السائدة، ويرفض الواقع، ظاناً أنه يُرضي ربه، وأنه بذلك ضامن للجنة. خطورة العامل الفكري بازدياد بسبب تعدُّد القنوات الإعلامية، التي ينشرون من خلالها سمومهم. ومع وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت تزداد الخطورة. وهنا يكمن دور الأم الواعية في فرض رقابة لما يتعرض له أبناؤها من غزو فكري، متيقظة لوسائل الإعلام المختلفة؛ فتختار المناسب لأبنائها, وتبيّن لهم الرأي الشرعي الصحيح في قضايا الانتماء، وطاعة أولي الأمر، والقتل والتفجيرات والجهاد، وغيرها، وتنبههم بأن مصادر هذه القنوات الفكرية مليئة بالشبهات، ومبنية على باطل، ولا تمت لديننا بصلة، وبذلك تكون مثل (المطعوم) الذي يحمي أطفالنا من الانحراف وغسل الأدمغة. هذا الدور الذي نطلبه وننتظره منها لا يعتمد فقط على ما تحققه لنفسها من علم وثقافة. علينا أن نساعدها، ونقدم لها أسباب نجاحه، ونوعيها؛ لتفرق بين خطأ وصواب, ونقويها، ونمكّنها من الأسلحة لمحاربة أعتى وسائل التضليل.
الأم قادرة دون غيرها على تطبيق الحوار الأسري، وفتح قنوات الحوار مع الطفل. وهذا أمر مهم؛ فمن خلاله تبيِّن لأطفالها دورهم في الحياة، وحق وطنهم عليهم، وواجباتهم تجاهه، واستدراك أي زلة من قِبل أطفالها - لا قدر الله - فهي ستكون مطَّلعة على طريقة تفكيرهم. وبإمكانها أيضاً أخذ الأبناء لحضور محاضرات، والاستفادة من كبار السن للحديث عن الوطن، الذي له أثر كبير في نفوس أبنائها؛ فلطالما استمتعنا بقصص أجدادنا، وكان لها الأثر الطيب في حياتنا. استغلال أي مهرجان، سواء داخل النوادي الاجتماعية أو الرياضية أو حتى المنتزهات لرسم الفرح في قلوب أبنائها، وتذكيرهم بنعمة الأمن والأمان؛ حتى تزيد من ولائهم لولاة الأمر في الوطن. وعليها أن تربيهم على المحبة والتسامح ونبذ العنف، وتشعرهم بأن الوطن هو للجميع، وأن كلاً منا عليه واجبات، وله حقوق.
لتكن الأم قدوة صالحة لأبنائها في القول، وتنمي حب الوطن بالسلوك الذي يعلّم أبناءها قيمة الوطن والحفاظ على مرافقه العامة، واتباع الأنظمة، والتقيد بالقوانين.. وليرتبط ذلك ببيان الدوافع لمثل هذه الممارسات السوية؛ لتساعد الأبناء على اكتساب المهارات والقيم، وبالتأكيد العلم والمعرفة؛ فتضمن لنا تخريج أبناء قلوبهم تنبض بحب الوطن.
ولِتكون بالمستوى المطلوب منها فلنسأل أنفسنا: ماذا قدمنا لها لكي تؤدي هذا الدور؟ هل حجم ونوعية المسلسلات التركية التي تقدَّم لها للترفيه وإلهائها يخدمان قضيتنا الوطنية السامية؟ هل نوعية البرامج التي تقدَّم لها بشكل ممل ومكرر منفرٌ لها؟ ألا يمكننا الوصول لتوعيتها بشكل لافت وجذاب بينما نصل إليها برسالة عن التنزيلات وتحفيظها جدول مواعيد مسلسلاتها المفضلة؟
مقالي هذا هو محاولة يائسة مني لإثارة آرائكم واستدراك تعاطفكم خدمةً لأنفسكم. كم تكلفت البرامج التي نطلقها لدرء خطر التحاق أبنائنا بالإرهاب؟ كم ننفق على الأغاني الوطنية والدورات الوطنية؟ إن تكلفة إعداد المنبع أقل بكثير، ونجاحه مضمون. الأم هي الأساس؛ وما لم نهتم بالأساس فإن كل ما بُني على باطل فهو باطل.