عادل عيسى زيدان ">
لم يُعرف دين ولا مذهب قدَّس العلم والتعليم وعظَّم دور المعلم ورفع منزلته ومكانته في الدنيا والآخرة؛ مثلما نجد في الحضارة الإسلامية.
فما أكثر المتشدقين بقصص وحكايات في قيمة المعلم الاجتماعية والمادية هنا وهناك في العصر الحديث فهنا؛ دولة تعطيه أعلى راتب وهناك دولة تضعه في رأس قائمة الموظفين والمرموقين وإذا؛ ما قيس هذا بما في تاريخ الحضارة الإسلامية من قصص التعظيم والتمجيد للمعلم ومكانته كان كالسراب هذا في الدنيا فضلاً عن تلك النصوص المقدسة التي جعلت المعلم في مصاف النبيين والصديقين ورفعت درجته في المهديين بل إن الكون كله ليدور في فلك ويستغفر له سائر مخلوقاته الحية والجامدة.. فعن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل اللَّه له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُ.
وفي تاريخ أمتنا صفحات مشرقة تحكي مواقف جليلة رفع فيها قدر المعلم ومكانته إلى مرتبة علت الملوك والعروش، ومن ذلك مثلاً ما رواه ابن خلكان عن العالم المسلم (الكسائي) حينما كان يربي ويؤدب ابني خليفة المسلمين «هارون الرشيد» في زمانه، وهما الأمين والمأمون وبعد انتهاء الدرس في أحد الأيام، قام الإمام الكسائي فذهب الأمين والمأمون ليقدما نعلي المعلم له، فاختلفا فيمن يفعل ذلك، وأخيراً اتفقا على أن يقدم كل منهما واحدة.. ورفع الخبر إلى الرشيد، فاستدعى الكسائي وقال له: من أعز الناس؟ قال: لا أعلم أعز من أمير المؤمنين قال: بلى، إن أعز الناس من إذا نهض من مجلسه تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين، حتى يرضى كل منهما أن يقدم له واحدة فظن الكسائي أن ذلك أغضب الخليفة فاعتذر الكسائي، فقال الرشيد: لو منعتهما لعاتبتك، فإن ذلك رفع من قدرهما.
وروى أبو نعيم في الحلية أن هارون الرشيد قدم إلى الرقة في غرب بغداد فاستقبله أفراد من الحرس والشرطة، وعندما قدم عبدالله بن المبارك من نفس المكان خرج الناس عن بكرة أبيهم لاستقباله فنظرت جارية في قصر الخليفة إلى المنظر فقالت ما هذا؟.. قالوا: عالم من أهل خراسان، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلى بشرط وأعوان.
قال الشاعر:
إنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَاهُمَا
لَا يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا
فَاصْبِرْ لِدَائِك إنْ أَهَنْت طَبِيبَهُ
وَاصْبِرْ لِجَهْلِك إنْ جَفَوْت مُعَلِّمَا
وفي عصر الانفجار العلمي والتعليمي والصناعي المنطلق بقوة يقع المعلم كحجر ارتكاز ودفة السفينة فهو صانع تلك العقول التي صنعت أعقد الأجهزة وأعظمها تطورًا فهؤلاء الصُّنًّاع كانوا يومًا يجلسون بين يديه يصنع العقول ويشكلها ويرسم تفاصيل مستقبلها تمامًا كفنان ماهر يمسك بريشته فلا يحق لأحد أن ينقص من قدره أو يضع من ذكره فيعلي عليه مهندسًا أو طبيبًا أو مخترعًا فكل هؤلاء من صنع يديه ولذا أدركت الدول ذات الإستراتيجيات الصحيحة والتوجيهات السوية في بناء مجتمعاتها موطن القوة في هذا العصر ألا وهو المعلم فلم تكتف ببناء المصانع لإنتاج المعدات والمراكب والأدوات والريبوتات والأجهزة الذكية ولم يكن في هذا كفاية لها فوضعت يدها على موجه وصانع العقول التي تنتج كل هذا فجعلت له صناعةً مستقلةً قائمةً بذاتها.
نعم هناك الآن مصانع للمعلمين تعدهم بمواصفات قياسية حسب طلب السوق العالمي وتصدرهم لتجني من وراءهم العملة الصعبة النادرة فضلاً عن كونهم مفارق وحاضنات لأجيال تبني وتنتج وتخرج للبلد كل حاجياته فتعد الهند مثلاً « أحد أكبر مواقع تصدير المعلمين لمختلف المدارس والكليات في جميع أنحاء العالم وعلى الرغم من أن هناك آلاف المعلمين الهنود ممن يعملون بالفعل في الخارج في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا؛ إلا أن الطلب لا يزال في ارتفاع مطرد».
وفي بيئتنا العربية هناك محاولات جادة تتلمس الطريق في مسير هذه الصناعة، وما معايير جوائز التميز المطروحة للمعلمين في بعض بلداننا العربية إلا بمثابة المواصفات القياسية للمعلم العصري المنتج محليًا، ولذا يحق لكل معلم حصل على مركز متقدم في جائزة التميز بالمملكة العربية السعودية مثلاً أن يضع على صدره وسامًا كتب فيه «صنع في المملكة».
وكلنا أمل أن نجد المعلم المتميز في كل صف دراسي في كل مدرسة في كل قرية في كل بلد عربي وبدون تميز المعلم ربما تظل نهضتنا تسير حبواً والعالم حولنا يركض.