نواصل مع ترجمتنا لمختارات من دراسة البروفيسور بيورن أولاف أوتفيك، وهي الدراسة الأولى ضمن «مختارات د. حمد العيسى- دراسات نادرة» وهو مشروع شخصي دشنه كاتب هذه السطور مؤخراً. البروفيسور بيورن أولاف أوتفيك هو أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في قسم الدراسات الثقافية واللغات الشرقية، كلية العلوم الإنسانية، جامعة أوسلو، مملكة النرويج. ونشرت الدراسة في يونيو 2014:
ولكن هناك اضطراب متأصل في الفكر السلفي عندما يتعلق الأمر بالسياسة. فالقاعدة الأساسية في السلفية هي أن كلمة الله الخالصة يجب أن تهيمن على المجتمع. هذه الكلمة يمكن الوصول إليها في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية. ولكن، النصوص المقدسة لا تعمل من تلقاء نفسها في المجتمع. ولذلك هناك حاجة لـ «وكالة إنسانية» لتنفذ ما في القرآن. ونظرا لأن الرابط المباشر بين الله والبشر انقطع مع وفاة النبي محمد بحسب العقيدة السنية الرئيسة: فمن يملك الحق في الزعم بأنه يمثّل تلك الوكالة البشرية اللازمة؟
من يملك الحق في الكلام نيابة عن الله؟
واعتاد السلفيون رفض المبدأ الديمقراطي، لأنه يعني حق الشعب من خلال ممثليهم المنتخبين في التشريع، في حين أن المسلم التقي يعتبر أن التشريع مصدره الحصري هو الله فقط. ولكن نظراً لكون تطبيق الشريعة في المجتمع الحديث يوجب صياغة نصوص قانونية واضحة، فضلاً عن أن الحكم السياسي يتطلب أكثر بكثير من مجرد تشريعات، فإن الأسئلة التي لا يمكن للسلفيين تجنبها هي: من، إذا افترضنا صحة السؤال، يملك الحق في الكلام نيابة عن الله؟ ومن يحق له تقديم التفسيرات الضرورية للنصوص المقدسة فضلاً عن اتخاذ جميع القرارات السياسية التي لا يوجد لها جواب في الكتب المقدسة؟ وهل يمكن لحاكم غير منتخب - حقا – أن يحكم بالحق الإلهي؟ أحد الأجوبة قد يكون: «كلا، ولكن محاولة استبدال الحاكم قد تعرض البلد لمخاطر حدوث حالة من الفوضى، والآثار السلبية لذلك الفعل مدمرة لدرجة اعتبار الحكم الاستبدادي الدائم هو الخيار الأفضل». ولكن نظرا لأن جزءا من القوة الدافعة وراء السلفية بشكل عام هو الرغبة في جعل الحياة أفضل من خلال جعلها أكثر إسلامية، فإن فكرة ترك السياسة للحكام القائمين ، مهما كانت جدارتهم، لا يمكن التمسك بها إلا لأسباب قاهرة. إحدى الحجج السلفية السائدة حول هذا الأمر هي أن العلماء، بناء على تعليمهم، هم أفضل من غيرهم (؟!) لتحديد المسار الصحيح للبلد وفقا للدين. ولكن نظرا لأن شرائح واسعة من العلماء لا ينتمون للسلفية، ونظرا لأن المزيد والمزيد من الناس، بما في ذلك أتباع السلفية، قادرين على قراءة وتفسير النصوص المقدسة بأنفسهم، فإن شرعية مثل هذا الاحتكار العلمائي المرغوب به مشكوك فيها.
تطور سلفي مفصلي:
الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق يشرعن النشاط السياسي
ومع مثل هذه الخلفية، فليس من العجيب أن النظرة الفاحصة لتاريخ السلفية خلال العقود الثلاثة الأخيرة يكشف عن نزاعات داخلية كبيرة حول مسألة شرعية النشاط السياسي. ولعل أبرز نزاع كان بين عالم الحديث والمنظر السلفي الشهير ناصر الدين الألباني (1914-1999) ضد الشيخ المصري [بل الآن الكويتي من أصل مصري] المقيم بالكويت عبد الرحمن بن عبد الخالق (*) (م. 1939). الألباني كان مبجلا بين أتباعه السلفيين لإصراره العنيد على تنقية وتصفية كل تعاليم الدين الراسخة، وفحص جميع المواقف حول القضايا الراهنة، وكيف يمكن تبريرها على أساس من القرآن أو أقوال وممارسات النبي. لقد لام الألباني الإخوان المسلمين - في الواقع - لوضعهم العربة أمام الحصان في مسلكهم الإصلاحي لأنهم أعطوا الأولوية للعمل السياسي. ولكن الألباني أصر أن الأهم لإقامة دولة إسلامية هو أن يكون هناك جهد متواصل لتنقية العقيدة والممارسات الدينية من البدع. لقد قال إنه في حالة عدم وجود دولة إسلامية حقيقية من الأفضل الامتناع عن العمل السياسي وقال عبارته الشهيرة: «من السياسة ترك السياسة». ومن الجدير بالذكر هنا أن رأيه ليس رفضا مطلقا للسياسة بل يتعلق ببعض «الظروف الحالية» غير المحددة. (20) ولكن تلميذه، عبد الخالق، الذي كان بخلاف ذلك يتبع بإخلاص خط الألباني الفكري عارضه مباشرة حول مسألة النشاط السياسي. عبد الخالق المقيم في الكويت منذ عام 1965 كان يعتبر الشخصية الرئيسة للحركة السلفية في الكويت. وفي العديد من كتاباته ، ولا سيما رسالة «المسلمون والعمل السياسي» في عام 1985 قام بتطوير حجة قوية ومقنعة للغاية للمشاركة السياسية، وخلص إلى أن: «الذين يفتون اليوم بعدم جواز الأحزاب السياسية الإسلامية يقدمون خدمة جليلة لأعداء الدين من حيث لا يدرون...». (21) وبالرغم من أن الألباني استنكر هذا الانحراف من تلميذه السابق، إلا أن آراء عبد الخالق كانت فعَّالة جدا في شرعنة دخول أجزا ء من الحركة السلفية في الكويت في السياسة البرلمانية في الثمانينيات والتسعينيات. وامتد نفوذ رسالة عبد الخالق أيضا إلى مناطق أخرى مثل الحركة السلفية في البحرين، التي دخلت أيضا حلبة السياسة، وإلى أجزاء من الحركة السلفية في بلده مصر، وخاصة أتباع حازم أبو إسماعيل.
وكسرت بعض الاتجاهات الإسلامية ذات التوجه السلفي - والتي ترفض العمل السياسي العادي لكونه عقيم وغير شرعي - مبدأ الطاعة اللا محدودة (المطلقة) للحاكم التي تتطلبها التعاليم الوهابية السائدة. وباستلهام - جزئي - من كتابات سيد قطب في السجن طوروا مبدأ أن الحاكم الذي لا يطبق الشريعة كقانون رسمي في البلد والذي يضطهد أولئك الذين يدعون لتطبيق الشريعة لا يعتبر مؤمنا. وبالتالي إذا كان الحاكم مرتدا وكافرا فمن واجب جميع المؤمنين الصادقين حمل السلاح والإطاحة به. وقد أنتج هذا الخط من التفكير والعمل ما يعرف بـ«السلفية الجهادية». ولكن المثير للاهتمام حقا في حالة مصر هو أن قادة أبرز جماعة سلفية جهادية والمعروفة باسم الجماعة الإسلامية، بدأوا بمراجعة أفكارهم ?وتراجعوا عنها? منذ أواخر التسعينيات، وفي نهاية المطاف تخلوا عن الفكرة الجهادية وخففوا من تشدد سلفيتهم بشكل مميز. (...)
طلاب السبعينيات في الجامعات المصرية
(...). ويصر السلفيون على أن أوامر الله نهائية وغير قابلة للتفاوض حولها. وبالتالي، كان هناك تقليديا موقفين سلفيين مميزين تجاه السياسة: (أ) إما الانسحاب منها، أو (ب) الدخول إليها بسيف لفرض إرادة الله مهما كان رأي الحاكم المستبد أو الحكومة المنتخبة. ولكن يبقى معظم السلفيين متحفظين ومبتعدين عن المشاركة السياسية. ويركزون جهودهم بدلا من ذلك على دعوة إخوانهم المسلمين للالتزام بالتعاليم الدينية الصارمة للسلوك الشخصي. كما يشاركون أيضا - إلى حد ما - في العمل الخيري ولكن بدون تحدي السلطة السياسية القائمة. ولكن تخالف الجماعات السلفية الجهادية المتطرفة كتنظيم القاعدة هذا المبدأ السلفي الهادئ عبر الدعوة للإطاحة بالحكام الذين يعتبرونهم مرتدين عن الدين الحق. ولكن حتى الجماعات السلفية الجهادية يمكن اعتبارها – بطريقة ما – «لاسياسية» (Apolitical) بمعنى أنها تعطي القليل من الاهتمام للمشاكل الفعلية التي تواجه الناس والتي سوف يواجهونها إذا وصلوا إلى السلطة. فتفسيرهم للإسلام - مثل السلفيين الآخرين - لا يزال متصلبا للغاية ويعتبر الفقه الكلاسيكي مرجعا رئيسا بدون أي مرونة للتكيف مع العصر.
وكان كلا الاتجاهين (السياسي واللا سياسي) ممثلاً بوضوح في الحركة السلفية المصرية. وعلى وجه الخصوص، ظهر اتجاهان سلفيان متميزان في الحركة الطلابية العريضة في السبعينيات: (أ) الجماعة الإسلامية، التي دخلت في حرب مفتوحة باسم الجهاد ضد السلطات المصرية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، و(ب) الدعوة السلفية التي فضلت الانسحاب من الحياة السياسية والتركيز على نشر الدعوة والسلوك الأخلاقي المستقيم. الأولى كانت قاعدتها الرئيسة في صعيد مصر، والثانية في الإسكندرية.
يتبع
** ** **
هوامش المترجم:
(*) ولد فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق اليوسف بمحافظة المنوفية بمصر عام 1939 وحصل على الدرجة العالمية (أي الدكتوراه) من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. عمل مدرسا بمدارس الكويت من 1965 إلى 1990. وعمل في مجال البحث العلمي بجمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت وقد صدر مرسوم أميري عام 2011 بمنحه الجنسية الكويتية. (العيسى)
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى