إن فن كتابة الرسائل في أول نشوئه لم يكن فنًا احتل مجلدات عذبة كثيرة جدًا حينها، فالرجال والنساء كانوا رسميًا السيدات والسادة، وكانت اللغة ما تزال فخمة وجافة جدًا لتتمكن من الانعطاف والتحول بسرعة وحرية على نصف صفحة من ورق الملاحظات.
إن فن كتابة الرسائل هو غالبًا فن كتابة المقالات على نحو مبطن. ولكن كيفما كان، فقد كان فنًا يمكن للمرأة أن تمارسه دون أن تفقد أنوثتها. كما يمكنها ممارسته في لحظات غريبة، إلى جانب فراش الأب المريض، وأثناء آلاف المقاطعا، ودون تعليق مثير، وبلا سم كما كان، وبالتظاهر غالبًا أنه يخدم غرضًا معينًا. ومع ذلك وجدنا في تلك الرسائل التي لا حصر لها، والتي ضاع معظمها اليوم، قوة الملاحظة والذكاء اللذين أخذا شكلًا مختلفًا لدى إيفلينا في رواية «كبرياء وهوى». كانت مجرد رسائل إلا أنها كانت مشوبة ببعض الكبرياء، فقد عانت دوروثي - دون أن تعترف بذلك - الألم في كتابتها وكان لديها آراء حول طبيعته: «لا أعتبر الباحثين أفضل الكتّاب (أعني في كتابة الرسائل، وقد يكونون كذلك في الكتب)... أرى أن كل الرسائل يجب أن تتمتع بالحرية والسهولة لأنها حديث المرء». كانت تتفق مع عم عجوز لها رمى دواة الحبر على رأس سكرتيره لأنه استخدم (وضع قلمًا على الورقة) بدلًا من قول (كتب) ببساطة، ورغم ذلك فقد كانت ترى أن هنالك حدودًا لهذه الحرية والسهولة: «... فالكثير من الأمور التي تختلط معًا» يفضل قولها على كتابتها في رسالة. وهكذا نأتي إلى شكل من الأدب - إن سمحت لنا دوروثي أوزبورن بتسميته كذلك - مختلف عن غيره، والذي ندمنا كثيرًا اليوم لضياعه منا إلى الأبد، كما يبدو.
تقدم دوروثي أوزبورن، وهي تملأ ورقاتها الرائعة قرب فراش والدها أو بجانب زاوية الموقد، تصويرًا للحياة، وقورًا ولعوبًا، جادًا وحميميًا، لجمهور من شخص واحد، لكنه جمهور متأنق، كما لا يمكن لروائي ولا مؤرخ أن يفعل. فقد كان من شأنها إبقاء حبيبها على اطلاع بما يحدث في بيتها، فلا بد أن ترسم السيد الجليل جوستنيان إيشام - الذي تدعوه السير سولمون إيشام - الأرمل المغرور والد البنات الأربع وصاحب المنزل الكبير في نورثمبتونشاير الذي يطمح للزواج بها، تقول: «يا إلهي! سأعطي أي شيء مقابل الحصول على رسالة من رسائله اللاتينية لأرسلها لك» يصفها فيها لصديق من أكسفورد ويثني عليها تحديدًا: «بأنها يمكن أن تكون رفيقة ومحاوِرة». ولا بد أن تصور نسيبها مول المعتل الصحة الذي استيقظ ذات صباح فزعًا من الإصابة بالاستسقاء فأسرع لزيارة الطبيب في كامبريدج. كما سترسم صورة لنفسها وهي تتجول في الحديقة ليلًا وتستنشق الياسمين، «ورغم ذلك لم أكن مسرورة» لأن تمبل ليس معها. كانت تكتب أي إشاعات تسمعها لتسلية حبيبها، فالسيدة سندرلاند مثلًا قد تعطفت ووافقت على الزواج بالسيد سميث العادي الذي يعاملها كأميرة، ويعتقد السيد جوستنيان أنها مثال سيئ للزوجات، غير أن السيدة سندرلاند تخبر الجميع أنها تزوجته شفقة به، «وكان هذا الأمر الأكثر إثارة للشفقة سمعته في حياتي» كما تقول دوروثي. وسرعان ما نعرف ما يكفي عن أصدقائها كلهم ونتلقف بلهفة أي إضافة إلى الصورة التي تتشكّل في أذهاننا.
في الحقيقة ينبع رأينا عن القرن السابع عشر بأنه الأكثر جاذبية من تقطع أحداثه، فالسيد جوستانيان والسيدة ديانا والسيد سميث وكونتيسته يجيئون ويذهبون، ولا نعرف أبدًا إن كنا سنسمع أخبارهم ثانية. لكن مع كل هذه العشوائية تحفظ الرسائل - مثل رسائل كتابها الموهوبين - استمراريتها، وتجعلنا نشعر أننا نجلس في عمق عقل دوروثي وفي قلب الموكب الذي يكشف نفسه صفحة تلو صفحة أثناء قراءتنا. لأنها تملك الموهبة التي تُعد الأهم في كتابة الرسائل من الذكاء والكياسة والفطنة مع العظماء. ولأنها تعبر عن ذاتها دون جهد أو تأكيد فهي تبعد كل تلك الاحتمالات وتنهيها بإظهار شخصيتها بانسياب، لقد كانت شخصية جذابة وغريبة معًا، ونقترب من التواصل معها عبارة إثر أخرى. كانت تملك أثرًا بسيطًا من ميزات النساء في عصرها، فهي لا تتحدث عن الخياطة أو الخبز لأنها كسولة بطبعها. كانت تطلع على الأدب الرومانسي الفرنسي الضخم، وتتجول في الأنحاء وتطوف لسماع أغاني بائعات الحليب، وتمشي في الحديقة على ضفة النهر الصغير «حيث أجلس وأتمنى أن تكون معي هنا». كانت تميل للجلوس بصمت مع الأصدقاء قرب النار إلى أن يتحدث أحدهم عن الطيران فيوقظها ربما، وتثير ضحك أخيها حين تسأله عما كانوا يقولون عن الطيران لأن الفكرة قد أعجبتها، ولأمكنها الطيران لطارت مع تمبل. كان الوقار والكآبة يسريان في دمها، وكانت تبدو كما اعتادت أمها أن تصفها كما لو كان كل أصدقائها موتى. كانت مثقلة بحس الثروة وطغيانها وتفاهة الأمور وعبث المساعي. وكانت أمها وأختها امرأتين متجهمتين أيضًا، واشتهرت أختها بالرسائل لكنها كانت مولعة بالكتب أكثر من الأصدقاء، و»اعتبرت الأم حكيمة مثل أكثر النساء في إنجلترا» لكنها ساخرة. تتذكر دوروثي قول أمها: «لقد عشت حتى وجدت أنه من المستحيل اعتبار الناس أسوأ مما هم عليه وكذلك ستفعلين أنت». تعين على دوروثي، لمعالجة طحالها، أن تذهب إلى الآبار في إبسوم وأن تشرب الماء الذي يطفو فيه الفولاذ.
كان حس الدعابة لديها بمزاجها هذا يأخذ شكل السخرية أكثر من الظرافة. كانت تحب تقليد حبيبها وسكب شيء من المزاح حول الخيلاء وشعائر الوجود، والسخرية من الأصل النبيل، كما أن الرجال البدينين من كبار السن كانوا مادة جيدة لسخريتها. كانت تضحكها الموعظة المملة. كانت فطنة في الحفلات وفي المواعظ وفي الحياة والعرض، غير أنها برغم كل هذا الإدراك إلا أن هنالك شيئاً لم تنجح فيه. وقد أصيبت بالفزع والنكوص الذي لم يكن منطقيًا مع سخافة العالم. فقد أثار تدخل العمات وطغيان الأخوة حنقها فتقول: «أود العيش في شجرة مجوفة لأتحاشاهم». كان تقبيل الرجل لزوجته علنًا بالنسبة لها» منظرًا مؤذيًا لا يرغب المرء برؤيته. ورغم أنها لم تعد تكترث إن كان الناس يمتدحون جمالها أو ذكاءها، «أو انهم يظنون اسمي إليز أو دور»، إلا أنها كانت ترتعد خوفًا من الإشاعات حول سلوكها، ولهذا حين يستدعي الأمر الاعتراف على الملأ أنها أحبت رجلًا فقيرًا وأنها تستعد للزواج به فإنها لن تفعل. فقد كتبت: «أعترف أنني أتمتع بمزاج لن يجعلني عرضة لازدراء الناس»، بل كانت ستشعر» بالرضا ضمن نطاق ضيق كالذي يعيش فيه أي شخص من طبقتي»، إلا أن التهكم أمر لم تكن لتتهاون فيه أبدًا. كانت تتراجع عن أي تهور قد يجلب إدانة العالم لها، لقد كان ضعفًا تعيّن على تمبل أن يقرعها عليه أحيانًا.
- ترجمة/ بثينة الإبراهيم