عروبة المنيف
تباغتنا الحياة في أحداثها وتداعياتها وندخل في معتركها، نتصارع من أجل تحقيق رغباتنا وتحصيل أكبر قدر من المكتسبات الحياتية، تدفعنا «الأنا» بعنفوانها وكبريائها وجبروتها ومحركاتها الهادرة، فتارة نندفع لتحقيق رغبة ما بمحركات أنانية بحتة،
وتارة أخرى تهدر تلك المحركات من أجل الآخرين نعم، لكي نكتشف في نهاية المطاف أن النيه موجهة لإرضاء «الأنا» أيضاً، وليس الهدف هو الرغبة البحتة في إدخال السرور والبهجة على الآخر، بل لسماع كلام الإطراء والمديح والتبجيل التي ترضي وتعظم «الأنا» فينا وتجعلنا ندور في فلكها من أجل إرضائها والرضوخ لها ولرغباتها التي لا تنتهي.
هل فكرت يوماً بالقيام بمبادرات لا تتعلق أبداً بإرضاء «الأنا» خاصتك وقمت ببادرة معينة بنية صادقة من أجل ذلك الآخر لإرضائه وإدخال السرور إلى قلبه وليس من أجل القول إن فلاناً عمل كذا وكذا «جزاه الله خيراً» وتجاهلت تلك «الأنا» الهادرة في داخلك؟. لا شك أن الكثير منا يقوم بتلك الأعمال الخيرة «لوجه الله»، لكن الأهم من عمل ذلك الخير هو أن لا «نمن» على المستقبل بتلك الأعمال الخيرة، تلك العطاءات والمبادرات الخالصة «لوجه الله» تترك عطراً فواحاً يدوم ولا يتلاشى عبيره بعد فترة من الوقت أو بعد الاستحمام كالعطور المصنعة، بل هو عطر أبدي يبقى ما بقي ذكراك.
بعض الأرواح تذهب إلى بارئها ولكن مجرد ذكراها يطلق ذلك العطر الزكي الفواح على الدوام، إنه عطر أعمالها الصادقة الخارجة من القلب والبعيدة عن «الأنا» وكبريائها، فأعمالهم تتحدث عنهم بعد مماتهم لتشتم ربيع أزهارها المتفتحة على مدار العام مطلقة تلك الرائحة الزكية كلما جاء ذكراهم على الخاطر، والتي لا يمكن أن يضاهيها أي عطر. إنها رائحة النفس الزكية المطمئنة الراضية المرضية المعطاءة الخيرة.
العطاء ليس العطاء المادي فقط بل الأهم منه هو ذلك العطاء الذي جميعنا نستطيع بذله، إنه العطاء المعنوي، فالابتسامة والمحبة والشكر والامتنان والمساعدة والزيارة والسؤال عن القريب والبعيد والكثير الكثير.. كلها عطاءات ولكن الأهم تصفية النية الخالصة لوجه الله عند بذل تلك العطاءات لتنطلق من مبدأ الرحمة والمحبة والتسامح.
إنهم «الهانئون» كما سأطلق عليهم، تراهم دائماً سعداء مرحين ومرتاحي البال، فأفكارهم وقلوبهم النظيفة تعكس تصرفاتهم الهنية، فهم لا يفكرون بأي أفكار سلبية تجاه الآخر، ولا يطلقون أحكاماً جزافية على الآخرين؛ لأن درجة قبول الآخر لديهم مرتفعة جداً، فلا يميزون ولا يصنفون، فذاك يستحق المعاملة الحسنة، وذلك لا يستحق، إنهم يحبون ويحترمون الجميع ويجدون الأعذار لهم دائماً، فتراهم يعيشون بسلام ومحبة وتصالح مع أنفسهم قبل الآخرين، إنه طريق الهناء الدنيوي قبل الأخروي.
فهنيئاً لمن كان هنياً في جنة دنيوية وأخروية معطراً بأجمل العطور التي تفوح منه أينما حل، والتي لا تزول بخروج روحه عن جسده، فروحه العطرة تجول في الأجواء تاركة ذلك العبير الذي لا ينسى.