موسكو - سعيد طانيوس:
كثيرون يعرفون عن مهاجمة أتباع ملالي إيران للسفارة الأمريكية في طهران بعيد استيلاء الجموع الهائجة بقيادة الخميني على السلطة عام 1979, واحتجازهم عشرات الدبلوماسيين والموظفين الأمريكيين لأكثر من 400 يوم، بعد نهبهم مبنى السفارة وحرقه، لكن قلّة قليلة جداً تدري أن الفرس كانوا قد أضرموا النار في السفارة الروسية في بلادهم وقتلوا السفير الروسي وحراس السفارة الروس هناك قبل أكثر من قرن ونصف القرن على حادث الاعتداء على السفارة الأمريكية في طهران، إذ إن لأتباع كسرى تاريخاً حافلاً في الاعتداء على ضيوفهم من الدبلوماسيين ونهبهم وحتى قتلهم لأتفه الأسباب وأكثرها سذاجة خرافة أحياناً.
الاعتداء السافر على سفارة خادم الحرمين الشريفين في إيران والقنصلية التابعة لها قبل أيام معدودة، يعبّر بشكل من الأشكال عن استهانة الإيرانيين بضيوفهم من الدبلوماسيين، ويعتبر امتداداً لتاريخهم الحافل بالاعتداء على ممثلي الدول الأخرى المعتمدين لديهم، إلا أن الاعتداء الآثم على سفارة المملكة وقنصليتها في إيران جاء هذه المرة تحت خبث العمائم السوداء التي تخفي شروراً مستطيرة ضد كل من لا يشارك أصحابها مواقفهم وآراءهم وطموحاتهم الهوجاء في الهيمنة على المنطقة ومقدراتها.
بعد انتصار الإمبراطورية الروسية المدوي في الحرب الروسية - الفارسية (1826-1828)، قام المسرحي والشاعر الروسي الكبير ألكسندر غريبوييدوف بوضع اتفاق سلمي (بالفارسية «عهدنامه ترامانچاي») بين الإمبراطورية الروسية والدولة القاجارية، والذي وقعه ولي العهد الأمير عباس ميرزا والجنرال الروسي إيفان باسكيفيتش في بلدة «تركمان تشاي» قرب تبريز في 11 شباط - فبراير من عام 1828.
وبعد شهرين من وضعه الاتفاق، تم تعيين غريبوييدوف -الذي كان يشغل منصب سكرتير الشئون الدبلوماسية لدى الجنرال أليكسي يرمولوف قائد القوات الروسية في القوقاز، حيث تعلم اللغتين الفارسية والعربية-، وزيراً مقيماً (سفيراً) في بلاد فارس، وقد علق غريبوييدوف على تعيينه بأنه يُرسل إلى هناك لكي يكون «طريدة للافتراس».
ولعل سبب إرسال هذا الشاعر والمسرحي دبلوماسياً إلى بلاد فارس كان مقته التزلف إلى رؤسائه للحصول على مكان عمل أفضل، كما جاء على لسان أحد أبطال مسرحيته الكوميدية الشعرية «ذو العقل يشقى» في قوله «العمل يرضيني، ولكن المداهنة تثير اشمئزازي وقرفي!».
وكانت مهمة غريبوييدوف الأساس في فارس تتمثل في الحصول من الشاهنشاه الشكلي في طهران فتح علي شاه ومن الحاكم الفعلي للبلاد المقيم في تبريز الأمير عباس ميرزا على التعويضات، التي فُرضت على الدولة القاجارية بنتيجة الحرب التي خسرها الفرس أمام الروس. لكن الصعوبات كانت في انتظار غريبوييدوف في مكان عمله الجديد.
لكن، وعلى الرغم من أن بلاد فارس كلها كانت تشارك في سداد ثمن الهزيمة النكراء، فإن الفرس، الذين وضعتهم الحرب على حافة الإفلاس، كانوا يجدون صعوبة في سداد الإتاوة، التي فرضها الروس عليهم، الأمر الذي زاد من استياء المجتمع الفارسي.
ومن ناحية أخرى، كان الأرمن الذين يقيمون في بلاد فارس يجدون، منذ مطلع عام 1829، في السفارة الروسية ملجأ لهم. وعلى الرغم من الخطر، الذي كان يسببه ذلك للسفارة والسفير، فقد كان غريبوييدوف يؤويهم. وكان من بين الملتجئين إلى مقر الدبلوماسية الروسية في طهران امرأتان أرمينيتان من «حريم» أحد أقارب الشاه، وخصي أرميني من «حريمه». وقد طلب هؤلاء من غريبوييدوف إعادتهم إلى وطنهم، الذي أصبح جزءاً من الإمبراطورية الروسية في ذلك الحين.
بيد أن إيواء الأرمينيات في السفارة الروسية أثار سخط متعصبي طهران الدينيين، الذين عدّوا ذلك «تهتكا»، فشنوا حملات دعاية معادية للروس في البازارات والمساجد؛ وأعلنوا «الجهاد» ضد غريبوييدوف «الكافر ذي النظارات». كما أجج الدبلوماسيون الإنجليز الذين لم يرقهم تعزيز روسيا مواقعها في وسط وجنوب آسيا، العداء للسفير الروسي بين أفراد حاشية الشاه.
وهكذا، وفي يوم مشؤوم من أيام شهر شباط - فبراير من عام 1829، احتشد أمام السفارة مئة ألف من أبناء طهران، وكان على رأسهم رجال الشاه. وسرعان ما فقد مدبرو المؤامرة السيطرة على الحشد الرعاع، التي اغتنم الفرصة، وأقدم على قتل الشعار والسفير غريبوييدوف مع 35 قوزاقياً، كانوا يحرسون السفارة.
وقد أثارت المذبحة أزمة دبلوماسية حادة بين البلدين؛ ولتطبيع العلاقات مع روسيا، أرسل الشاه حفيده الأمير خسرو ميرزا إلى سان بطرسبورغ. وكانت مهمته تتلخص في التوصل إلى قبول الإمبراطور الروسي اعتذار الشاه عن قتل غريبوييدوف، وإلى تخفيف عبء تعويضات الحرب عن كاهل الفرس.
وكان من بين الهدايا التي حملها خسرو ميرزا إلى الإمبراطور الروسي نيكولاي الأول، حجر ألماس خرافي، يعرف باسم «الشاه»، ويبلغ حجمه نحو 90 قيراطا ووزنه نحو 18 غراماً وطوله نحو 3 سنتيمترات. وفي حصيلة الأمر، ورغم اعتذار الفرس ومحاولتهم استرضاء القيصر الروسي, ادّت مجزرة السفارة إلى تدهور العلاقات بين روسيا وبلاد فارس، وتضخيم مبلغ التعويضات حتى وإن تم تأجيل الدفع لخمس سنوات.
وقال نيكولاي الأول لخسرو ميرزا وهو يتسلم منه الهدايا وحجر الألماس إنه «سيجعل حادثة السفارة المأسوية درساً للفرس». ومع أن الحجر الكريم الذي قدمه الفرس لاسترضاء القيصر الروسي ما زال موجوداً ويمكن رؤيته في متحف الكرملين, إلا أن الشاعر والمسرحي الكبير الكسندر غريبوييدوف دفع حياته ثمناً لغدر الفرس وعدم احترامهم العهود والمواثيق، وهو يرقد بسلام في عاصمة جورجيا تبليسي («تيفليس» سابقاً) مع زوجته الجورجية الأميرة نينو تشافتشافادزه كشاهد على تاريخ الفرس المقيت في الغدر بضيوفهم واستحلال دمائهم واموالهم وكل ممتلكاتهم.