كل أعمال الإنسان تتألف في الحقيقة من شيء واحد فقط هو إثباته لنفسه في كل لحظة
دوستوفيسكي
خرج الشباب الأوربي من الحرب العالمية الثانية محطماً يائساً وفاقداً للإيمان بكل شيء بعد أن دُمرت حضارة قارة بأكملها وعم الخراب كل مناحي الحياة.
وشعر العالم «الشباب تحديداً» أنهم وحيدون ومجردون من الأمل ومن الإيمان.. الإيمان بكل تلك المقولات والفلسفات التي تعلموا، لأنها لم تحمهم ولم تردع عنهم الموت والتشتت وفقدان كل شيء.
ومن خلال هذا التيه ولاستعادة الإيمان بالحياة وبقدرة الإنسان على العيش صنع هذا الشباب لنفسه طرق تعبير أخري ومذاهب أدبية وفنية وموسيقية وحياتية حتى يتمكن من استعادة وتأكيد الذات وترميم الخراب النفسي ومن ثم المضي مجددا في مسار الحياة.
وبدون هذه المذاهب التي اخترعها ما كان له أن يعبر كل ذلك الركام والرماد وروائح الجثث وإخراج طائر الفنيق من الرماد مرة آخرى وأعاد صنع حضارة الرفاهية والقيم الأوربية والكونية التي تحتفي بالإنسان قبل كل شيء وبحب الحياة، ولم تكن هناك من خطوط حمراء أو قيود على تفكيره ولم يكن الشباب مستعداً لسماع أي مرجعيات أو الارتهان إلى أي رموز ومنظرين فقد سقطت ولم يكن مستعداً لبعثها..كان راغباً في تأكيد هويته بنفسه ونفسه فقط.
وانطلقت المذاهب الوجودية التي كانت قد بدأت في مطلع القرن التاسع عشر والتي كانت تنادي بمنح الإنسان تقرير خياراته وحده وتحمل تباعاتها وحده وانبثقت من خلال ذلك مدارس فنية فجرت كل مكنونات اللاوعي وصرخ الشباب بأغان الغضب والتنفيس كفرق الروك والجاز والبانكس وأسماء وفرق آخري وبتقليعات ملابس وقصات شعر ولم يعترض أحد على طريقة هؤلاء الشباب ولا أسلوب حياتهم فقد كانوا بحاجة للشعور بالهوية وبتأكيد الذات ونسف كل شيء يذكرهم بعصر الحروب والأقطاع والتسلط.
ونجا هؤلاء الشباب من الفشل ومن أمراض الإحباط والانتحار (بالطبع ليس الكل) لكن الغالبية نجت ونجحت في بث مدارس أدبية وفنية ونقدية وكانت كلها تتمحور حول الإنسان. واسترد الأمل والإبداع وسريعا عادت أوربا بشبابها للحياة وتكرس حلم الرفاهية.
الشباب العربي الآن يعير ذات المأزق.. مأزق الحرب والتدمير وفقدان الإيمان بكل الأدبيات التي كبر عليها والرموز التي آمن بها لكنها لم تقدم له شيئا من الوعود بالعدالة والرفاهية ولا حتى الأمل.
وهو اليوم ضائع وحائر وفاقد للتصديق بالوعود وحتى الإيمان ولا يعرف إلى أين يتجه.
الفرق بين الشباب هنا والشباب الأوربي وحتى الأمريكي والكوري والياباني هو أنه غير قادر هنا على اجتراح وجوده بمفرده ولا البحث عن هويته وتجريب خياراته فالنظم السياسية والدينية والبيروقراطية والاجتماعية التقليدية لن تمنحه ترف الخيارات والتجريب.
ولم يعد لديه من خيارات أخرى سوى الالتحاق بمحارق القتال حيث ما كانت أو الانخراط في التدمير الذاتي والتشبع بالكراهية والتدمير النفسي والتدين المنفر أو العكس والذهاب بعيدا نحو مساحات الشك والتساؤلات المربكة. والبعض فضل الهروب نحو الشمال نحو الهجرة حتى وإن إبتلعتهم البحار.
وفي ظل فقدان كل منافذ الترفيه أو تفجير الطاقات تتسارع وتيرة التحولات وتتخذ أشكالا مختلفة نحو السقوط في فخ الكراهية أو المخدرات ومنشطات الهلوسة والتي جعلت من بلادنا أحد أكبر أسواقها في العالم سواء اعترفنا أو رفضنا وما يكتشف كل يوم في المنافذ هو فقط القليل من رأس الجبل المغمور.
ونحتاج شجاعة كبيرة للاعتراف بهذا التيه ونحتاج إلى آليات احتواء جديدة ومختلفة كليا ومساحات تسامح كبيرة جدا لا نمتلكها الآن ولا نراها في الأفق. وعدا ذلك ما من خيارات سوى المضي نحو المزيد من التيه أو التطرف والضلال والله المستعان.
- عمرو العامري