مما يصدم القارئ العادي للأدب الإنجليزي أن يعرف أنه مر بموسم أجرد، مثل أوائل الربيع أحيانًا في ريفنا، فالأشجار باسقة والتلال ضاجة باللون الأخضر، وليس هناك ما يحجب كتلة الأرض أو خطوط الأغصان، لكننا نفتقد رعشة حزيران ودندنته حين تبدو أصغر الغابات مفعمة بالحركة يقف فيها المرء ساكنًا ليصغي إلى همس الحيوانات الفضولية السريعة الرشيقة التي تنصرف لشؤونها تحت الشجيرات. ولذا كان علينا الانتظار في الأدب الإنجليزي إلى انقضاء القرن السادس عشر ومرور السابع عشر أيضًا قبل أن يصبح المشهد القاحل مفعمًا بالحركة والاختلاج، ولنتمكن من ملء الفراغات بين الكتب العظيمة بأصوات الناس.
كان لا بد طبعًا من حدوث تحولات كبيرة في الخصائص النفسية وفي وسائل الراحة - مثل الكرسي ذي الذراعين والسجاد والطرق المعبدة - قبل أن يتسنى للبشر مراقبة بعضهم بعضًا بفضول، أو ليتبادلوا أفكارهم ببساطة. قد يكون أدبنا الأول مدين بشيء من عظمته إلى حقيقة أن الكتابة كانت فنًا غير شائع يمارسه طلبًا للشهرة أكثر من المال أولئك الذين كانت تجبرهم موهبتهم على ذلك. وربما أضعف قوته انغماس عبقريينا بكتابة السيرة الذاتية والرسائل والمذكرات وبالكتابة الصحفية بشكل أو بآخر.. ومهما يكن هذا، فإن هنالك ضحالة في عصر لم يكن فيه كاتبو رسائل ولا كاتبو سيرة. تظهر الحيوات والشخصيات في اختصار مطلق. يقول السير إدموند جوس (1) : دون غامض (2)، ويعود ذلك بشكل كبير إلى معرفتنا برأيه بالسيدة بيدفورد رغم عدم توافر إلماحة بسيطة إلى رأيها به، فلم يكن لها صديق تصف له ذلك الزائر الغريب، ولا مؤتمنة لأسرارها تشرح لها الأسباب التي جعلت دون يبدو غريبًا بالنسبة لها.
وكانت الظروف التي جعلت من المستحيل أن يولد بوسويل (3) أو هوراس والبول (4) في القرن السادس عشر، أثقل وطأة على الجنس الآخر. فبالإضافة إلى الصعوبات المادية - يجسّد منزل دون الصغير في ميتشام بجدرانه المتهالكة وأطفاله الباكين الصعوبات التي عاناها الإليزابيثيون - كان مما أعاق المرأة إيمانها بأن الكتابة لا تناسب جنسها. قد تكتب سيدة عظيمة من هنا وهناك منحتها طبقتها الاجتماعية التساهل، أو ربما مداهنة الدائرة الصاغرة المحيطة بها وتنشر كتاباتها، لكن هذا التصرف كان مستهجنًا لو صدر من امرأة تنتمي لطبقة اجتماعية دنيا، عبرت دوروثي أوزبورن عن عجبها عندما نشرت دوقة نيوكاسل أحد كتبها قائلة: «ولا شك أن المرأة المسكينة كانت محتارة بعض الشيء، فلا يمكنها أن تكون أكثر سخافةً إن أقدمت على الكتابة بل وكتابة النثر أيضًا»، وأضافت معبرة عن وجهة نظرها: «لن أقوم بذلك حتى لو أصبت بالأرق لأسبوعين».. والمفارقة أن الانتقاد اللامع هذا قد صدر عن امرأة تتمتع بموهبة أدبية رائعة، فلو أن دوروثي أزبورن قد ولدت عام 1827 لكانت روائية، ولو ولدت عام 1527 لم تكن لتكتب على الإطلاق، لكنها ولدت عام 1627، وعلى الرغم أن إصدار الكتب بهذا التاريخ كان أمرًا مستهجنًا إن صدر عن امرأة، إلا أنه لم يكن هنالك ضير في كتابة الرسائل. وهكذا كُسر الصمت تدريجيًا، وبدأنا نسمع هسهسة الشجيرات، وبدأنا نسمع للمرة الأولى في الأدب الإنجليزي رجالًا ونساءً يتحدثون معًا حول النار.
** ** **
(1) السير إدموند جوس: (1849 - 1928) شاعر وناقد إنجليزي.
(2) جون دون: (1572- 1631) شاعر إنجليزي.
(3) جيمس بوسويل: (1740- 1795) محامٍ وصحفي أسكتلندي.
(4) هوراس والبول: (1717- 1797) سياسي وأديب إنجليزي.
- ترجمة/ بثينة الإبراهيم