د. محمد خيري آل مرشد
سنّة من سنن الحياة اختلاف الناس في أفكارهم وثقافاتهم باختلاف مشاربهم وبناء عليه اختلاف مواقفهم من قضايا كثيرة، وهكذا هو حال الشعوب والأمم لها ثقافات متمايزة تنطلق من اعتقادات مختلفة بُنيت على مفاهيم وأفكار متعددة المصادر، هذه الاختلافات إنما تثري المساحة الفكرية العامة وتغنيها بشكل عام، فيستطيع المثقف التأمل في مختلف ألوانها وأشكالها، وقد يدرس أو يتدارس بعضها فيستفيد من هذه المعطيات المتنوعة ليكون له موقف ما يعبّر عنه
معتمداً بذلك على ما اطلع عليه من معلومات وأفكار ووجهات نظر.. فإذا ما توافر في الساحة الفكرية العامة طروحات متعددة من مشارب متنوعة تتشكّل قناعات ومدارك يسهل التعامل والتعاون معها فتكون مسافات التقارب والتفاهم أقرب، لتكون أفقاً أوسع عند القارئين والباحثين والمثقفين وغيرهم.. فالفقر الحقيقي هو فقر الأفكار وضيق أفق المساحة الثقافية والفكرية أو أحاديتها.
ولكن هذا الاختلاف قد يكون عدائياً أيضاً فعليك أن تحسب له حساب سواء أكان عدائياً ثقافياً أم عملياً عسكرياً والذي عادة ما يكون كنتيجة للأول لمحاولة طرف ما فرض رؤيته بالقوة أحياناً لا بالحوار والإقناع أو إيجاد الصيغ الوسطية بين هذا وذاك أو المتوافقة أصلاً لتكون قاعدة انطلاق مشتركة للعمل والتعاون المشترك.. فمن هنا عليك دائماً أن تكون جاهزاً لكل ظروف الصراع المحتملة، وعليه عليك أن تبتكر كل وسائل الدفاع المطلوبة في كل مستوى على حدة، ولا نبالغ إن قلنا بأن العدو القوي هو أجدر بالاحترام من العدو الضعيف، وذلك لأنه في حينه يستوجب عليك العمل بجدية لتجنب أخطاره أي هو الحافز الأقوى والدافع الأهم لتكون لك قوة مانعة ضده، هي ذات الحالة التي يستفيد منها جسم الإنسان من أعدائه الجراثيم والفيروسات ليكون مناعة مكتسبة ضدها، بل سعى الإنسان لصناعة اللقاحات والأمصال من ذات الجراثيم والفيروسات ليتجنب شرها فداوى الشر بالشر ذاته.. تأكد بأنه إذا كان لك عدو قوي، شرس أو أعداء أقوياء فهذا يحتم عليك التفكير في كيفية مواجهة هؤلاء وإن الاستكانة والركون ودس الرأس في الرمل تعني انتهاءك وإعطاءه أسباب التمكُّن منك والسيطرة عليك جزئياً أو كلياً.. وهنا لا نتكلم عن الأعداء العاديين فقط، بل حتى مخالفي الرأي فإن هذه العداوة الفكرية أو القوة الخشنة إنما تعطيك دافعاً حقيقياً للتحضير وهاجساً إيجابياً للتفكير في نوع وطريقة المواجهة سواء الفكرية أم المادية، تحرضك على العمل الدؤوب لتنتج أجمل الأفكار ولتتسلح بأعتى حرابك لمواجهة عدوك هذا القوي، أما العدو الضعيف فهو في الغالب مأمون الجانب، ضعيف أو عديم المعرفة فلا حجة له فكرياً ولا قوة له فعلياً أيضاً فبتحريك الشفاه سكن وهدأ وإن احتاج الأمر فقط بالتلويح له بالسوط من بعيد تجده خامداً مذعوراً؛ ولكن لنكون هنا مع السجال الفكري العام الذي عادة ما تتولد منه المواقف وتتشكّل على أثره الاصطفافات، سواء للأفراد أو الجماعات وحتى بعض مواقف الشعوب والرأي العام وكذا الدول.. طبعاً بحسب موقع هذه النقاشات والسجالات وأهميتها؛ بل أهمية أصحابها فمن خلالها يمكن أن يتشكّل رأيٌ عام مفيد أو عكسه ناهيك عن فائدته بإقناع الطرف المخالف بفقر فكرته وقصر نظرته وبضمور حجته..
أذكر عندما كنا في الثانوية العامة كان لنا صديق أستاذ ابتدائي شيوعي يزورنا بكثرة، فتدور جدالات ونقاشات حامية الوطيس لا أنسى هذه الجدالات المتكررة يومها عندما نجتمع على الغداء، كانت سجالات قوية على مستوانا الفكري نحن الشباب طبعاً، أما هو فكان ناضج العود والفكرة، فكان لا بد لنا من أن نكون مسلحين بمعلومات ذات مصداقية وأفكار مقنعة تعتمد على الدليل والشاهد والبرهان لدعم الحجة، فكانت هذه اللقاءات تشجعنا إلى العودة إلى الكتب لنقوي مواقف أفكارنا ضد أفكاره؛ رغم صغر سننا مقارنة به كان متحدثاً مناظراً مخضرماً، وأحسب أنه قارئ مخضرم كذلك. كل هذا يدفعنا وبحماسة جداً لنحضر أنفسنا لمعركة غداء غد الفكرية.. فلا أجمل من شعورك بالتفوق الفكري الناضج لا لكسب معركة فكرية؛ بل لكسب صاحبها إلى صفك وهو الهدف المنشود، وليس الصراع الفكري بحد ذاته..
هي الحالة ذاتها اليوم في المعارضات الأيديولوجية والفكرية والسياسية، تحتاج هذه المعارضات لشخوص يتمتعون بمعارف واسعة وعلوم حقيقية تفيدهم في السجال الفكري مع خصومهم وتدعم مواقفهم في عيون من يتابعهم، فهذه النخب يجب أن تتخلى أولاً عن أفكارها العتيقة المخمّرة، لصالح أفكار جديدة علمية وعملية جميلة، تعيد إنتاجها وتصقلها لتكون بمستوى تفكير الخصم والعدو والمراقب بآن واحد.. وكذلك عليها اتباع أساليب أكثر جمالية وبراغماتية؛ لكي تستطيع الوصول إلى الهدف وهو الحال ذاته في علاقات الأفراد والجماعات والدول.. تقديم نفسك والتعريف بها يتم عبر معلومات نافذة ذات قيمة ثقافية وفكرية للتأثر في الخصم، فالاستحواذ على مساحات في عقل الآخر هي تماماً كاحتلال الدول لمساحات من أرض الخصم بل هي أكثر تأثيراً، حيث يتم التأثير هنا على الإنسان وعلى المجتمع ذاته وهذا ما تقوم به دول كثيرة بنشر معتقداتها أو مفاهيمها الثقافية في الأوساط المجتمعية الأخرى لتؤثر على مواقف الآخرين ليكونوا تابعين لها مؤيدين سياساتها بل مقاتلين لصالح مشاريعها وأطماعها.. لذا نجد التركيز دائماً على جذب العقول للقيادة ونشر المعتقدات في الأوساط الجاهلة غير المحصنة علمياً أو ثقافياً أو معرفياً لتكون الضحية عند الحاجة لأنها مستعدة لذلك، فتنشر هناك مرادها وتبث بينهم غاياتها.. فلا يخاف من التوسع إلا الضعيف وكذلك لا يتوسع إلا القوي الذي يملك إستراتيجية كسب الموقع كما ذكرنا الفكري أو الثقافي العقائدي.. فهل نحصن أنفسنا بالمعرفة والعلوم وهل نملك إستراتيجية نشر معارفنا ومعتقداتنا على الأقل لصنع أمصال مكتسبة تحمينا شر هؤلاء ولمجاراة أعداء يستبيحون فضاءاتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية والجغرافية أيضاً!!
جميل احترامي.