تدخل المجالس البلدية هذا العام دورتها الثالثة بإجمالي 3.156 عضواً في 284 مجلساً بلدياً على مستوى مناطق المملكة بعد انطلاقتها الأولى عام 2005م، حيث تمثّل هذه المجالس أهم أدوات الإدارة المحلية المجتمعية التي تضطلع بترجمة المتطلبات الحضرية للمدن وسكانها إلى برامج ومشروعات تُعنى بها الأمانات والبلديات، وجاء نظام المجالس البلدية الجديد في مادته الثانية ليمنحها «شخصية اعتبارية ذات استقلال مالي وإداري... إلخ»، وصلاحيات واسعة تمثّلت أبرزها في إقرار الخطط والبرامج البلدية المتعلقة بتنفيذ المشروعات البلدية المعتمدة في الميزانية ومشروعات الصيانة والتشغيل والمشروعات التطويرية والاستثمارية وبرامج الخدمات البلدية ومشروعاتها. هذا البناء المؤسسي الجديد للمجالس البلدية سيضع أعضاءها أمام تحدٍ كبير للاضطلاع بمسئولياتهم ومهامهم الموكلة إليهم والإيفاء ببرامجهم الانتخابية أمام جهاز البلدية وسكان المدن.
ومن خلال قراءة تحليلية للبرامج الانتخابية للأعضاء المنتخبين فإنه يمكن القول إن التراث العمراني الوطني، وهو المشروع الأهم في ذاكرة الوطن كان غائباً عن مسرح الوعود التي أطلقها هؤلاء الأعضاء، وهذا يدعو للتساؤل عن سبب هذا التجاهل غير المبرر، وهل يُعزى ذلك إلى تدن في مستوى وثقافة الوعي بأهمية التراث العمراني الوطني ودورة في تنمية المدن واقتصادياتها وأصالتها المعمارية والعمرانية، أم إلى أسباب أخرى لم تمكن من انضمام هذا الحقل الهام في قائمة الأولويات التنموية المعلنة لممثلي المجتمع المحلي، خصوصاً أن مساهمة المجالس البلدية في المحافظة على التراث العمراني الوطني وتنميته وإدارته واستثماره وتشغيله في الدورتين السابقتين لم تكن بالمستوى المأمول، رغم أن الأمانات والبلديات ممثلة في أمنائها ورؤسائها بذلت «جهوداً ذاتية» كبيرة في هذا المجال وقدمت تجارب ناجحة كانت محل ثناء وتقدير.
لا أبالغ حينما أقول إن ذلك مؤشر يدعو للقلق خصوصاً لدى المختصين في حقل التراث العمراني، فالمجالس البلدية بتكوينها وصلاحياتها التي حملها النظام الجديد تؤكد أنها باتت سلطة بلدية تقريرية ورقابية وفق ما نصت عليه المادة الثالثة من النظام، لذلك فإنها تمثّل كياناً إدارياً نافذاً في صناعة واتخاذ القرار على مستوى الإدارة العمرانية للمدينة، وإذا ما خلت قائمة أولويات هذه المجالس من التراث العمراني كهدف رئيس - بموجب ما رصد في الحملات الانتخابية - فإننا حتماً سنعود إلى المربع الأول ونبدأ رحلة الدفاع عن مبادئ المحافظة على أصالة المدن التي تمثّلها هذه المواقع التراثية بكل ما تحمله من مخزون تاريخي وثقافي ومعماري وعمراني وتراث إنساني نشأت عليه حضارات عريقة عبر التاريخ، وربما يفقدنا ذلك ثمرة عمل جاد وجهود كبيرة بذلت خلال سنوات مضت كفلت إعادة مكونات التراث العمرانية إلى واجهة البيئة الحضرية من جديد كأحد أهم العوامل التي تؤثر في تطوير المدن وكمولد اقتصادي رئيس لتنميتها، ولا ريب في أن عدداً من المدن التي تخلت عن تراثها العمراني فقدت شخصيتها وهويتها وباتت متشابهة في عناصرها ومحدداتها ونسيجها المعماري والعمراني بل ومتطابقة في كل شيء.
إن الدور المأمول من أعضاء المجالس البلدية - وهم أهلٌ لذلك - أن يكونوا على قدر من المسئولية والمهنية في قيادة المجتمع المحلي والمؤسسات المدنية والقطاع الخاص لتحفيز المحافظة على مواقع التراث العمراني الوطني وإعادة الحياة إليها بالعمل مع الشركاء المعنيون، والتركيز عليها كميز نسبية وتنافسية، وتحويلها إلى منصات اقتصادية منتجة من خلال التوظيف الأمثل لمقوماتها ومكتسباتها، والعمل على إحداث التغيير والنقلة النوعية في مهام المجالس البلدية كسلطة فاعلة في تقديم فلسفة نوعية وغير تقليدية في أساليب إدارة المدن والتجمعات العمرانية، فعربة التاريخ لن تحمل في ذاكرتها سوى أولئك الذين «غيّروا» و»أنجزوا».
المهندس بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن