تركي بن رشود الشثري ">
داعش ظاهرة ومرحلة وتقترب من أن تكون نتاجا لمعطيات تاريخية وسننية عدة، فالمنطقة بل والعالم بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وتوحد قطب رحى الإدارة السياسية ممثلاً في البيت الأبيض وما مر من اختناقات اقتصادية وتبدل ولاءات تبعاً لتغير المصالح والفوضى الخلاقة في المنطقة العربية وما يندرج تحت هذه الخطوط العريضة ولدت داعش من الرحم المستأجر ولها أم وأب شرعيين وليس المقال هنا لتفصيل وتقرير الحقائق التي تلف هذا التنظيم ولكن المراد تسليط الضوء على بعض الجوانب الجذابة التي تجعل بعض شبابنا يتخذ القرار وينظم لداعش ويفجر نفسه ويكون على استعداد تام لتقديم أقاربه قرباناً لهذا الغول المتمرد سبقتنا أمم في هذه التجارب ومر على أوروبا فترات تاريخية استيقظت فيها حركات جماهيرية عنصرية كالنازية والفاشية وغيرها وقد قام حكماء عصرهم ومصرهم بوضع فرضيات لسبب انضمام الشباب لهذه الحركات نريد من خلال هذه الكلمات البسيطة أن ننزل هذه الفرضيات على واقع داعش ونحللها لنرى ما يصدق منها وما يكذب وتبعاً للمعنى الصحيح فالحق ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها وقد أخذت هذه الفرضيات من كتب تناولت تلك الحقب والحركات منها (روح الاجتماع لغوستاف لوبون) و(المؤمن الصادق لإيريك هوفر) فما الذي تعطيه هذه الحركات وبالإمكان أن تعطيه داعش للشاب الجديد إنها تعطيهم العقيدة البديلة ووظيفة هذه العقيدة بحسب إيريك هوفر: حجب حقائق العالم عن الأتباع فالتضحية بالنفس تعتمد على مدى تجاهل حقائق الحياة فالمنضم لهذه الجماعات لا يؤمن بالملاحظة والتجربة وإنما يؤمن الإيمان الكامل بعقيدته وقضيته المقدسة بل إن الاعتماد على الأدلة المستقاة من الحواس يعد هرطقة وخيانة، كذلك لا يمكن للمنضم لهذه الجماعات أن يخشى العقبات أو أن يخاف الخطر أو أن يرتبك أمام المتناقضات لأنه يرفض الاعتراف بوجود هذه الأشياء، وفاعلية العقيدة لا تقاس بسموها أو صدقها أو مضمونها بل تأتي من ثلاثة أمور وهي:
- قدرتها على حجب الشخص عن نفسه وعن العالم.
- يقول باسكال (لا بد أن تعارض - أي العقيدة - الطبيعة والمنطق والرغبة).
- عصمتها عن الخطأ.
- لا يشترط أن يفهمها المرء ولكن من الضروري أن يؤمن بها بل إنه عندما يفهمها تفقد الكثير من قوتها لأنه إذا فهمها شعر وكأنها ولدت داخل نفسه وهو يكره نفسه ولا يريد شيئا من داخل نفسه.
يقول رودلف هس وهو يطلب من الشباب النازي أن يرددوا قسم الولاء خلفه
(لا تبحثوا عن أودلف هتلر بعقولكم: ستجدونه كلكم في قلوبكم).
ومن صفات المنتمين لهذه الحركات أنهم يصدقون كل شيء ويصدقون بسرعة ويرغبون في المزيد من ذلك والسبب أن عقيدة الجماعة تصدر عن المشاعر لا عن المنطق والعقل والمشاعر لا تملك الرؤية لتمحيص الحقائق فهي تصدق وتنشر وتزيد وتبالغ أيضاً وهذا هو الذي يسميه الناس (غسيل المخ) ويتساءلون كيف تمكنت داعش من غسل مخ هذا الشاب أو ذاك فالتحق بهم أو فجر نفسه من أجلهم والجواب أن الشاب جاهز أصلاً وينتظر الحياة الأسطورية ويريد التفريغ عن أحلامه الكيشوتية ولديه من الدوافع والنواقص التي يبحث عنها فجاءت داعش في الوقت المناسب (بطالة في بعض الدول العربية وتربية قاسية وسهولة المعاصي وحياة الخواء والاحتقان الشهوي والانشطار على مستوى الهوية ومأزق الوجود فالمجتمع إسلامي ولكنه غير آمن على عقل وقلب الشاب الناشئ من خلال النفاق الاجتماعي وازدواج الشخصية وثقافة العيب التي تفوق في سطوتها الوازع الداخلي واتساع الهوة بين المبادئ والواقع وعدم قناعة الشاب بالقيم التي لا تعدو الألسن التي يشاهد مضادتها في الشوارع والمكاتب والمدارس والنكسات على الصعيدين الإسلامي والعربي)
إيرك هوفر يقول:
(لا يجيء الخلاص إلا عن طريق المعجزة التي تتسلل من خلال ثقوب في جدار الحقيقة الحديدي).
كل هذا يورث عدم الرضا عن النفس وهذا يؤدي إلى سرعة التصديق فإن الرغبة في الهرب من أنفسنا كما هي عليه توجد رفضاً لقبول الحقائق والمنطق.
المنضمون لهذه الجماعات لا يرون الأشياء على مستوى التفصيل وإنما جملة فرؤيتهم إجمالية ولا يتمتعون بالتدقيق والتأمل والتمييز فهذه الملكة شبه معطلة لديهم في ظل الانخراط في الجماعة كذلك هم يحرقون المراحل ولا يستوعبون ضرورة التطور أي الانتقال من طور إلى آخر وهذه المشاعر تنتقل فيما بينهم بالعدوى فإذا اجمعوا عليها تعسر اقتلاعها واستحال الشك فيها مما يحوِّل الأوهام لديهم إلى حقائق ونعرف أن المتطرف لا يتسامح ولا يقبل أنصاف الحقائق بل إما أن يأتي كل شيء جملة أو أن يذهب كل شيء كذلك وبطبيعة الحال لديهم خطباء يقفون بالغريزة على هوى الجمهور فهذه الحشود المتحمسة تريد (التوكيد والتكرار والمبالغة) وأسطرة الأحداث والأشخاص والدخول في التاريخ من أوسع الأبواب عن طريق الكلام واللغويات والجناس والطباق وألوان البديع وينفرون أشد ما يكون النفور من الدليل والبرهان والحجة والتقرير المنطقي المعقول المبني على أصول.