رمضان زيدان ">
يقف الإنسان عند محطات متعددة وهو ماضٍ في طريقة الدنيوي الحافل طال به العمر أو قصر كي يبلغ إلى العالم الآخر ويكون السير لبلوغ هذه النهاية في طريق أُحادي الجانب والخطوات فيه إجبارية لا تراجع عن أي خطوة نخطوها حيث المُضي قُدما للأمام في هذا الدرب يكون إلزاميا لا إرادة للإنسان فيه. إن هناك مراحل عديدة تأخذ بالإنسان دوما وتقربه من النهاية الحتمية التي لا نكوص عنها ولا مناص منها، فمضي الوقت يقربنا مع كل نبضة عرق وكل دقة قلب وكل شهقة نفس مما قد نراه بعيدا وهو بالفعل جد قريب بل هو أقرب للإنسان من شراك نعله ويحملنا بغتةً وخطف إلى هذا الحتف أن الوقت يداهمنا وعقرب الساعة يباغتنا ويدور بلا توقف أو كلل أو ملل من الدوران ليل نهار ليقضي أمرا كان مفعولا.
إن الطريق الأحادي الجانب الذي نخطو فيه هذه الخطوات سواء كنا نائمين أو مستيقظين جادين كنا أو عابثين أصحاء أو مرضى أغنياء أو فقراء طائعين أو عصاه إلى أخر الحالة التي نكون عليها ومن ثم فهذا الطريق مقسّمٌ إلى مسافات ننتهي من السير في مسافة لندخل في مسافة أخرى وذلك من خلال اجتياز تقاطع في نهاية كل مسافة لنسترسل بعدها ونحن سائرين ، وهذه المسافة هي العام الذي انقضي من عمرنا المحدود أما التقاطع فهو العلامة الإرشادية عند نهاية كل مسافة لنعلم من خلالها كم قطعنا من الطريق لننتهي في نهاية المطاف إلى أخر العلامات الموجودة على جانبي الطريق لنعبر بعدها على ممر الموت لبلوغ ذلك المستقر الأبدي في العالم الآخر. إن الوقت يزحف ليطوي حِقبا زمنية بعضها تلو بعض ويلتهم الأجيال جيلا بعد جيل لا يعبأ بأشخاص أو ممالك أو إمبراطوريات أو نفوذ ذلك أو سلطان ذاك يقوم من يقوم ويسقط من يسقط يرتفع أقواما وينخفض آخرون وهو سائر في طريقه المرسوم وقدره المحتوم يمر اليوم على امرئ وقد لا يمر عليه مرة أخرى إلا وقد ابتلعته الأرض في باطنها ليطوي بذلك صفحات من سجل العمر البشري وقد تزداد بهاءً وروعةً وبهجة من أعمال صالحة تطرزها الورود وتطوف من حولها بعبق إيماني تنشرح له الصدور وتبتهج من حوله أسراب الطيور باعثة بترانيم الأمل حتى يكون هناك يوم آخر أكثر جمالا وضياء. وقد يمر ذات اليوم على امرئ آخر وهو طائفٌ حول ذاته ومنغمس في لذاته وشهواته التي حتما سوف تنقضي ولا يبقى منها سوى شؤم المعصية ودنس الذنب وهموم تتواري عن حملها الجبال الرواسي ويتمخض عن هذه الغفلة وتلكم الكبوة الحسيرة رانٌ يغشى القلب مُخلّفا وراءه ضميرا كالجلمود الأصم يودي بترياق الحياة ويعمد إليها فيجعلها قفارا وتتسرب إلى النفس البشرية من حينها الرتابة والتثاقل إلى الأرض والاسترخاء في ساعة تحتاج من القلب البشري إلى الهمة والنشاط والعمل.
إن العمر البشري حتما سينقضي بحلوه ومُره فهذا عام قد رحل وقد طوي بساطه وشد رحاله وولى مدبرا ولم يبقى منه إلا ما ادخر فيه العباد من الأعمال وسيرى كل منا عمله إن كان خيرا فخير وان وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وكأني بالأمس القريب وقد دخل علينا هذا العام المنصرم وها هو قد انتهي وكأنه لم يكن، دخل من باب ثم خرج من الآخر. من هنا كان للعمر البشري أهميته العظيمة والحرص عليه من الفطنة وفي ضياع الوقت ضياعٌ للعمر وتعطيل لخصائص إنسانية جليلة ومواهب وإمكانيات قد ترفع بصاحبها إلى أعلى عليين كي يتصدر الصفوة بين العالمين ويتبوأ مكانة سامقة تحت الشمس ولكنه الشطط عن الفطرة والتحول مرة بعد الأخرى حتى يصير الإنسان إلى تيه وشتات. إن العمر محدود بطبيعته والأعباء والتكاليف كثيرة فانتفع بوقتك ما استطعت إلى ذلك سبيلا علّك تستثمر عمرك المحدود في جانبه الايجابي المثمر بتقديم كل ما هو نافع وليكن بداخلنا من الدوافع الإنسانية ما يجعلنا نعمل على الترشيد والإيجاز في قضاء الحاجات.
على الإنسان أن يقتصد في استخدام الوقت ولا يسرف فيه وألا يضيّعه في أشياء لا جدوى منها ولا فحوى لها كحوار جدلي عقيم لا يُرجى منه خير ولا يتمخض عنه سوى الشحناء والضغائن ولا يخلف وراءه إلا أمراض القلوب. إن العمر يزحف بلا ضجيج ليلتهم حياة الإنسان كما ينقض الوحش على فريسته وهذه الفريسة المسكينة ليس لها من أمرها شيء سوى التسليم بالقدر المحتوم والنار مشتعلة تتراقص ألسنة لهبها الحارق ولكنها حتما تنتهي إلى رماد تحركه الرياح وتهوي به في وادٍ سحيق ويأخذه الفناء الرهيب إلى واقع تتألم لأجله النفوس قبل أن يقع ولكنه واقع لا محال. تمر الأعوام وتنقضي دون رجعة والثواني تنزف قطرة فقطرة من العمر البشري المحدود على ظهر هذا الكوكب حتى ينفد هذا المدد ويجف نبعه بانقضاء الأجل وقد حوا بين جانبيه عِبرا وحِكماً وعظات والفناء حتمي ليلقى الإنسان موعده مع أخراه يا أيها الواعي الحصيف لا تغتر بالدنيا فبساط العمر ينسحب من تحت قدميك رويداً رويدا فعش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل بين «عام مضى وعام ابتدى».