لله الأمر جميعاً، وإليه المعاد، وإليه يرجع الأمر كله خلق فسوى، وقدر فهدى، إليه المآب والمعاد {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص) فالدنيا دار فناء ومآلها إلى الرَحال وكل شيء فيها هالك لا محالة، وكل إنسان سيموت وينتقل من الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ ثم يوم القيامة، وما سميت الدنيا إلا لدنوها وقربها وقصرها وزوالها، والموت مصيركل حي وهو كأس الكل شاربه لا محالة قال الله الحي القيوم
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر) سبحانه {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالموت مرُّ وكل نفس ذائقه، هادم اللذات ومفرق الجماعات وقاصم الظهور، ومبيد الأمم نسأل الله العون عليه، ونسأل الرحمن الرحيم الرحمة عند حلول الموت وانقضاء الأجل، ونهاية العمر، ونحن نعيش أعمارا محدودة وأنفاساً معدودة والعمر مهما طال فهو قصير وإذا انقضى العمر، وحل الأجل، وانقطع العمل لم يبق للإنسان إلا ما أخبر به، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» وإذا فارق الإنسان الحياة فقد بين أحبابه وذويه والناس. وكل يذكر بسيرته وعمله وخلقه ومنزلته بين الناس فالمؤمن الصالح التقي المسلم المسالم ذو الخلق الطيب والصفات الحميدة يذكر بها ويفتقد بها فهو السعيد المفقود خيره وبره، وأما الصنف الآخر فهو الشقي المعرض عن طاعة ربه العاصي المؤذي للمسلمين والمتسلط على خلقه إلى فراقه. فيصبح موته راحة له وللمسلمين ويفرح الناس بفراقه وهلاكه، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، والناس شهود الله في أرضه، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم «مرت جنازة ذكرت بخيرفقال- صلى الله عليه وسلم- وجبت ومرت أخرى فذكرت بشر فقال صلى الله عليه وسلم وجبت ثم قال «أنتم شهود الله في أرضه، إذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة» وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار» متفق عليه.
بالأمس القريب وفي يوم الثلاثاء المنصرم 1437-3-18هـ، فجعنا بموت صاحب السمو الأمير سعود بن محمد بن عبدالعزيز بن الإمام سعود الفيصل آل سعود وآلمنا فقْده وفراقه، لما له من مكانة بارزة، ومنزلة عظيمة، وقدر جليل ومكان عظيم بين الأسرة الماجدة المالكة أعزها الله بطاعته، وبين الناس أجمعين حاضرة وبادية علماء عامة صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثا إنه كالبدر المضيء، وكالشمس المشرقة، فهو علم بارز، وطور شامخ، تميز بالكرم والسخاء والرحمة والتواضع، وصلة الرحم، وإكرام الضيف وزيارة المريض، وإغاثة الملهوف، وفك الرقاب وقضاء الديون، والشفاعة للمظلوم ونصرته ومدَ يد العون للمحتاجين، بلا كلل ولا ملل. يسوق نفسه إلى الكرم بنفس أبية مؤمنة طيبة، تواقة للخيرات، مقدام شجاع لا يشق له غبار، مهيب إذا حضر حكيم إذا قال، عادل إذا حكم، لا يبالي ولا تأخذه في الله لومة لائم لفضله وتميزه وعلو شأنه. ذاع صيته في الأصقاع ولمع نوره في الأرجاء، وعم خيره الداني والقاصي والغني والفقير، والقريب والبعيد، والكبير والصغير والبادية والحاضرة
ذو سخاء وكرم لا حدود له شهم ذو مروءة حليم علام بالأخبار والأشعار والروايات والقصص في الدين والدنيا خبير بالرجال والقبائل والناس، وفي.. لا ينسى لأحد فضلا، ولا يظلم ولا يتعدى على أحد ولا يبخس الناس حقوقهم وقدرهم، ولا يذكر أحدا بسوء أبدا ولا يجرح أحدا في دينه وخلقه وقدره أبدا، إذا أقدم عليه الضيف قام له واحترمه وتقصى عن أهله وذويه ومحبيه بالسؤال وأجلسه وأكرمه، ورفع من شأنه أمام الحاضرين وعرفهم به، فإن كان له حاجة قضاها بنفس طيبة كريمة يخشى الله ويتقيه، ويتعبد باجتهاد.. فهو قوام بالليل، إذا صلى الصبح لا يفارق مصلى حتى تشرق الشمس ويصلي نافلة الضحى.
إذا جلس اشتغل بذكر الله مسبحا مهللا مكبرا لا يشغله عن ذلك شاغل.
سما مجدا وفضلا وكرماً وعزاً ونوراً
شيخ التقى والنقاء والصفاء والهمم، جامعة العلوم والكرم والمكارم والفضائل والهمم والشمم والورع، حكيم الحكماء، وأديب الأدباء، وأشعر شعراء زمانه.
يقرض الشعر لا يطول ولكن قوله حكم ودلائل ونبراس، فهو حفيد الإمام عبد الرحمن بن الإمام فيصل بن الإمام تركي أئمة الهدى ومصابيح الدجى ونور الأرض وأقمار المعالي، وخاله صانع مجدنا وباني مملكتنا ومؤسسها سلطان السلاطين وملك الناس أجمعين أمير المؤمنين، الملك الهمام العظيم عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي أضاء تاريخ المملكة وشرفه وأعلى قدره، وأسس بنيانه، وأرسى قواعده، مجد العروبة، وسيف الإسلام وعنوان الشجاعة ورمزها وبطلها ومعناها الملك المؤمن الصالح التقي العابد الورع الحكيم المقدام رحمه الله رحمة الأبرار وأمهم الماجدة الطاهرة التقية الصالحة العابدة منيرة بنت الإمام عبد الرحمن الفيصل شقيقة الملك المؤسس الإمام عبد العزيز.
فلا غرو أن يكون الأمير سعود بن محمد بن عبدالعزيز بهذا القدر العالي وكما قيل: (الخال جذاب) فما بالك بمن خاله الملك العظيم عبد العزيز رحمه الله، ووالده الأمير محمد بن عبد العزيز المشهود له بالتقى والصلاح والورع والزهد والانقطاع للعبادة وطاعة الله محيي السنة المعتكف التقي النقي الطاهر، فاجتمع في الأمير الراحل أعلى صفات المجد والتقى والبطولة والعز والفضل.
مات الأمير سعود ولم تمت مآثره ومواقفه وذكره وصيته، فارق الدنيا وخلد تاريخا مجيداً حافلاً بالمآثر والأمجاد الكريمة، والمواقف النبيلة خاصة في فك الرقاب وعتقها وقضاء الديون، فالمواقف عظيمة، والسيرة حسنة، والخلق فاضل رحيم كم من فقير أغناه؟، وملهوف أسعده وأغاثه، ومضيوم نصره؟، وأرملة أعطاها وأغناها؟، ويتيم أفرحه وكفله، وكم؟ وكم؟ وكم؟ يعجز اللسان عن حصر مآثره ومناقبه، وسماته وفضائله فهو كالجبل الراسي، وكالطود الشامخ، وكالمنارة العالية التي يُهتدى بها،
إلى الله أشكو لا إلى الناس فقده
ولوعة حزين أوجع القلب داخله
عرفته عام 1396هـ، عندما كنت إماماً لشقيقه الأمير سعد رحمه الله ذلك البطل الشجاع المقدام السخي فهو صنوه ومثيله، وتعلقت بهما وتعلمت منهما الكثير وشقيقهما الأمير عبدالله حفظه الله تعلمت العلوم والآداب والأخبار وعلوم القبايل.
واستمرت علاقتي بالأمير سعود والأمير عبد الله بعد وفاة شقيقهما الأمير سعد عام 1406هـ حتى الآن ارتوى من معين ما عرفوا به وتميزوا به من فضائل وقيم. مات سعد السعود، العظيم المعهود، فكان لفقده ألم ولوعة ولغيابه فراغ وحسرة لما له من مكانة عظيمة
ولفقده في كل قلب لوعة
ولذكره في حمده ترديد
فزوال ذلك الطود بعد ثباته
ينبيك أن الراسيات تبيد
ثم لحقه الشقيق الأكبر سعود
وكم من جبال قد علا شرفاتها
رجالٌ فزالوا والجبال جبالُ
سمو الأميرسعود صاحب قلب كبير حريص على قضاء حوائج الناس، وإدخال السرور على كل حزين أو معوز أو مضهود أو مظلوم.
كريم حقاً بلا حدود ومواقفه في هذا الخلق العظيم لا تعد ولا تحصى، وقد تميز بالكرم وعرف به حتى أصبح يضرب به المثل، وأذكر موقفا له رحمه الله عام 1404هـ. كنت أزوره في قصره المطل على وادي حنيفة بالباطن بالرياض عصر يوم وأراد الخروج لزيارة مريض بمستشفى الملك فيصل التخصصي وركب سيارة صالون جي أم سي، وأنا وغيري معه وعندما فتح باب القصر للخروج إذا بامرأة اعترضت السيارة تصيح تكفى يا أبو خالد تكفى يا أبو خالد قدر الله على ابني حادثا وتدمرت سيارتنا وليس لدينا سيارة والتكاسي أهلكتنا وكانت السيارة التي ركبناها قد وصلت من الوكالة جديدة، فنزل ونزلنا معه وأخذ المفتاح من السائق وسلمها إياها، ومن شدة الموقف اختلط سرورها ببكائها. نعم هنا مثال صغير من مواقفه السخية العظيمة، وذات مرة عام 1408هـ، كنت لديه في أحد مخيماته ودخل عليه رجل ومشلحه خفيف ومخرق والجو بارد، فخلع مشلحه وأعطاه الضيف فهذا هو الكرم وهذه هي الرحمة وهذا هو التواضع وسيرته حافلة بالمآثر والمواقف السخية والعظيمة
وأحسن الحالات حال امرئ
تطيب بعد الموت أخباره
يفنى ويبقى ذكره بعده
إذا خلت من شخصه داره
عاش- رحمه الله- نافعا للناس سنداً للمظلوم عوناً للفقير والضعيف يعين على نوائب الدهر لم يضايق أحداً في رزقه، ويؤذ أحدا أبدا، ولم يرد سائلا، بيد أنه ينفع فقيرا. سحابة ربيع إذا أشرفت استهلت بالخيرات وأمطرت بالنعم والبركات، وعم فضلها وظلها:
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشمس حين تغيب
إن هؤلاء الأقمار الثلاثة سطروا تاريخا مجيداً غنيا بالمآثر الطيبة أحبهم الناس أجمعين فتحوا قصورهم وصدورهم للناس لا يردون سائلاً، ولا يتعذرون، ولا يتوارون عن أحدٍ في حلًّ أو ترحال أو مدينة أو صحراء يتنقلون ويتبعهم الخير وظلالهم وافرة وخيرهم عام وكرمهم شامل.
فهؤلاء الأمراء الثلاثة أهل تدين وطاعة لله وعبادة لا يقيمون منزلا إلا وقد أسسوا المسجد في طرفه قبله، إذا أذن المؤذن وجدتهم سابقين الناس إلى المساجد أعلم أنهم صوامون للنوافل، يحيون الليالي بالعبادة والخشوع لله والذكر والاستغفار والدعاء والتبتل، وقد سبقهم في ذلك والدهم التقي الطاهر النقي العابد الزاهد المتواضع المعتكف الصوام القوام، وكذلك والدتهم العابدة الصالحة عامرة المساجد أم الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام صاحبة السمو الأميرة منيرة بنت الأئمة وحفيدة الملوك والحكام وصدق الله سبحانه جل شأنه إذ يقول: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه).
لله قوم إذا حلوا بمنزلةٍ
حلَّ السرورُ وسار الجودُ إذا سارُ
فهؤلاء الأمراء الثلاثة سعود وعبد الله وسعد حياتهم حافلة بالمآثر الكريمة، والمواقف الطيبة ومناقبهم عديدة، ومفاخرهم جمة، وخصالهم سامية اشتهروا بين أفراد الأسرة الحاكمة العزيزة الكريمة بالفضل ونالوا التقدير والاحترام والمكانة العظيمة وكذا بين القبائل والناس، وكانوا مقصودين من المحتاجين والمعوزين والضعفاء والبؤساء وكل من له حاجة ولكم الجاه العظيم، والكلمة المسموعة لما لهم من شرف المنزلة وعزة المكانة وفي عزاء الأمير الراحل سعود رحمه الله اكتظ قصره بالناس وتزاحموا وتدافعوا لكثرة الأعداد والوفود بمنظر مهيب طيلة أيام التعزية.
واستقبل الناس ثروته الغالية وأبناءه الكرام فهم إن شاء الله على نهج وسيرة آبائهم ووالدهم التي رباهم عليها وأوصاهم بالتمسك بها والتزامها
خلفت بالدنيا بيانا خالداً
وتركت أجيالاً من الأبناء
وغداً سيذكرك الزمان ولم يزلْ
للدهر إنصافٌ وحسنُ عزاء
وعزاؤنا فيه الصبر بعد الإيمان بقضاء الله سبحانه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ونسأل الله له الرحمة والمغفرة والدرجات العلى من الجنة ونرفع أصدق العزاء والمواساة لملك الأمَّة وقائدها ورائدها وعزها ومجدها خادم الحرمين الشريفين الملك الهمام المقدام المنصور المؤيد بإذن الله أمير المؤمنين وولي أمر المسلمين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود حامي حمى الإسلام والسلام والعقيدة بارك الله للمسلمين فيه وأعزهم به ونصرهم به.
وإلى ولي عهده الحكيم وإلى ولي ولي عهده الفارس الباهر المبارك وإلى جميع أفراد الأسرة المباركة وإلى كل محب له، فله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى وإنا على فراقك يا أبا خالد لمحزونون.
داود بن سليمان آل دراج القحطاني - المستشار الشرعي بوزارة العدل