د. عبد الرحمن بن سليمان الدايل ">
صدرت ميزانية الدولة لعامٍ جديد بعد أيَّام قلائل من افتتاح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - أعمال السنة الرابعة من الدورة السادسة لمجلس الشورى، بكلمة جامعة شاملة، حدَّدت معالم طريقنا نحو مواصلة مسيرة النهضة الشاملة التي نعيشها في هذا العهد الزاهر الميمون، وقد جاءت الميزانية لتترجم أبرز ملامح تلك المسيرة بما حملته من شفافيةٍ وصدق ووضوح، ولتترجم ما أكَّد عليه خادم الحرمين - حفظه الله - في كلمته الضافية في مجلس الشورى في قوله «إن دولتكم حريصة على الارتقاء بأداء أجهزتها، بما يلبي تطلعات وآمال مواطنيها في المجالات كافة، وهي تدرك أن أمامها العديد من التحديات، إلا أنها عاقدة العزم - بإذن الله - على تجاوزها وتوفير الحياة الكريمة لمواطنيها».
وبمثل هذا الوضوح نُدرك أن حجم التحديات التي تواجهها المملكة في جميع المجالات كبيرٌ وخطير، غير أنه - بفضل الله - ثم بحكمة القيادة وحزمها، وحرصها على أن تظل للمملكة مكانتها وإشراقتها المضيئة، قد تمكَّنت الدولة من المواجهة الفاعلة لتلك التحديات مهما كانت حدَّتها أو تمادت في شدَّتها.
والتحديات التي تواجهها بلادنا - مع تعددها وتنوعها - يمكن أن تتمحور وتدور حول عاملين مهمَّين لا يستغني عنهما الإِنسان في هذه الحياة، وهما ضروريان لتحقيق السعادة والرخاء لبني البشر - مهما اختلفت مواقعهم على سطح الأرض - وهما الأمن وما يرتبط به، وتوفير الطعام وما ينتج عنه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هاتين النعمتين اللتين تفضَّل الله بهما على قريش في قوله تعالى {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَأمنهُم مِّنْ خَوْفٍ} ولذلك تسعى جميع الدول وتحاول جاهدة - عبر خططها وسياساتها - إلى توفير أمنها واستقرارها وتحقيق أمن وسلامة أبنائها، وتعمل أيضاً على التميُّز والتنافس في هذه المجالات، وترصد الميزانيات اللازمة من مواردها، وتحشد جهودها لمواجهة التحديات التي تعترض سعيها لتحقيق ذلك.
وليس بخافٍ علينا في المملكة كيف تحرص الدولة على مواجهة تلك التحديات فالأمن الذي تهدده آفة الإرهاب يقف خلفه فكرٌ متطرف، وتسعى جهات أجنبية على تأجيج فتنته وإشعال نيرانه، وإذا كان الإرهاب قد أصبح آفة عالمية اكتوى بنارها العديد من الدول والشعوب، وليس له دين ولا وطن - كما أكَّد ذلك خادم الحرمين - حفظه الله - فإنَّ الأجهزة الأمنية في المملكة استطاعت وببسالة منقطعة النظير، وبكلّ حزمٍ وقوة أن تتصدى لعصابات الإرهاب تلاحقهم وتداهم شبكاتهم، وهاهم رجال الأمن البواسل يقومون بين حين وآخر بضربات أمنية استباقية ناجحة، تُفكك خلايا الإرهاب وتحبط مخططاتهم، وتدفع عن الوطن مكائدهم وشرورهم، وتتواصل جهود الدولة لمواجهة هذا التحدي الخطير حتى يأمن الوطن ويعيش أبناؤه في طمأنينة وسلام، وقد أكَّد ذلك خادم الحرمين - أيَّده الله - بقوله « إننا في المملكة عاقدون العزم - بحول الله وقوته - على دعم وتعزيز قدرات أجهزتنا الأمنية بكل الوسائل والأجهزة الحديثة التي تمكنهم من أداء مهامهم ومسؤولياتهم على أكمل وجه وهي مصدر فخرنا واعتزازنا» .
وترجمةً لذلك فقد جاءت الميزانية الجديدة للدولة - بأرقامها ومخصصاتها - تؤكّد على ما تحظى به الأجهزة الأمنية من مكانة من أجل المواجهة الحاسمة الهادفة للضرب بيدٍ من حديد على أيدي الإرهابيين، ومحاربة الفكر المتطرّف ومَن يختبئ وراءه في جحور ودياجير الظلام، وهنا تبقى المسؤولية الكبيرة والدور المنوط بأجهزة التعليم والثقافة والإعلام والمواطنين كافة، للقيام بدورهم المطلوب في وأد الفِتن واقتلاع جذور الإرهاب والمساعدة في تجفيف منابعه ونبذ أسباب الفرقة، وهذا ما أكَّد عليه خادم الحرمين في كلمته أمام مجلس الشورى حين قال «إن الجميع يدرك أهمية الوحدة الوطنية ونبذ كل أسباب الانقسام وشق الصف، والمساس باللحمة الوطنية، فالمواطنون سواءٌ أمام الحقوق والالتزامات والواجبات، وعلينا جميعاً أن نحافظ على هذه الوحدة، وأن نتصدى لكل دعوات الشر والفتنة أيًّا كان مصدر هذه الدعوات ووسائل نشرها، وعلى وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة في هذا الجانب».
والتحدي الآخر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد القوي الذي هو عصب الحياة للدولة، وقد كان من المتوقَّع أن تتضاعف مخاطر هذا التحدّي مع انخفاض أسعار النفط فهو المصدر الرئيسي لاقتصاد وموارد المملكة، غير أن حكمة القيادة - يحفظها الله - في إدارة موارد الدولة مكَّنها من تفادي مخاطر وعواقب انخفاض سعر النفط،فقد حرصت الدولة على توظيف ما تحقق من إيرادات كبيرة نتيجة ارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الماضية في اعتماد العديد من المشروعات التنموية الضخمة، وتطوير البنية التحتية، وقد أشار خادم الحرمين - حفظه الله - إلى أنه قد تم َّ»تعزيز الاحتياطي العام للدولة مما مكّن بلادنا - بفضل الله - من تجاوز تداعيات انخفاض أسعار النفط، بما لا يؤثر على استمرار مسيرة البناء وتنفيذ خطط التنمية ومشروعاتها، وقد واصل اقتصادنا - ولله الحمد - نموه الحقيقي على الرغم من التقلبات الاقتصادية الدولية وانخفاض أسعار النفط، والفضل - بعد الله - يعود إلى السياسات الاقتصادية المتوازنة والحكيمة التي تتبعها الدولة في ضبط الأوضاع المالية العامة، والمحافظة على الاستقرار والتوازن بين الموارد والإنفاق على المشروعات التنموية الكبيرة في جميع القطاعات».
وقد انعكس ذلك التوجُّه السديد للقيادة الرشيدة - يحفظها الله - في الميزانية الجديدة للدولة التي راعت مصلحة المواطن بالدرجة الأولى، حرصًا على تنميته في جميع المجالات، وتحقيق سعادته في الحاضر والمستقبل، فركَّزت الميزانية على كفاءة الإنفاق مما أفاء الله به علينا من موارد لتجنُّب الهدر، مع توفير الشفافية، وتطبيق مبادئ المساءلة والمحاسبة تحقيقًا لما أكد عليه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - حين قال: «بانه لن يقبل أي تهاون في خدمة المواطن، وأن المقصرين سيكونون عرضة للمحاسبة» وفي ذلك تُعظيم حقيقي للاستخدام الأمثل لموارد الدولة، بما يعود بالنفع والفائدة على جودة المشروعات، وعلى كفاءة ما تقدمه الدولة للمواطن من خدمات.
وتحقيقًا للتنمية الشاملة للوطن والمواطن فقد وفرت الميزانية الموارد اللازمة للتعليم وتطويره ورفع كفايته، واهتمت أيضاً بتنمية القطاعات الإنتاجية والخدمية التي من شأنها أن يتولد عنها العديد من الوظائف لتتواصل جهود الدولة في مكافحة البطالة، كما حرصت الميزانية على توفير المبالغ اللازمة للاستمرار في تنفيذ برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، تنفيذًا لتوجيهاته بأن يتواصل البرنامج لمدة خمس سنوات، لما يوفره للوطن من خبرات وكفاءات، تحقق طموحات المملكة في حاضر أكثر ازدهارًا، ومستقبل أكثر إشراقًا.
وكثيرة هي الجوانب المضيئة في ميزانية الدولة والتي يجب أن يتوقف عندها المواطن بكل فخرٍ واعتزاز، ليتفهَّم مضامينها وأبعادها وما تفرضه عليه من واجبات المشاركة الإيجابية لوطنه وهو يواجه التحديات، فإذا كانت الدولة حريصة على ترشيد إنفاقها لتحقيق الاستفادة القصوى من مواردها، فإنَّ المواطن يجب أن يُعيد التفكير في سلوكه الاستهلاكي حتى لا يضيّع نعم الله عليه بالإسراف والتبذير، وهنا يتبادر إلى الأذهان أيضاً تلك الواجبات الملقاة على عاتق الجهات الحكومية والأهلية التي تتولى تنفيذ المشروعات، أو تقوم بتقديم الخدمات لتكون على قدر المسؤولية والكفاءة التي تليق بوطنٍ يقوده ملك الحسم والحزم سلمان بن عبد العزيز- حفظه الله - . حفظ الله وطننا وقيادتنا وأدام علينا نعمة الأمن والأمان.
- وكيل الوزارة، بوزارة الثقافة والإعلام، سابقًا