المدينة المنورة - غينات عينوسة:
أُحد.. جبل.. جماد.. كتلة من الحجارة والحصاة.. هذا وصف الرائي له!!
لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن رائياً عادياً فلقد رأى فيه ما لم يره سواه, رأى فيه مشاعر في مواقف شتى, رأى فيه المحبة حين قال كلما أقبل عليه (أحد جبل يحبنا ونحبه), ورأى فيه مهابته له -صلى الله عليه وسلم- حين ارتج فحدثه قائلاً (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان).
أحدٌ جبلٌ ليس بعادي, أحدٌ جبلٌ لا يُرى بالعين المجردة, بل يجب أن تغمض الأعين أمامه في لحظة تأمل لتاريخه المجيد الذي لو كان لبشر لظل يفخر به أحفاده إلى قيام الساعة.
(لما تجلى الله -عز وجل- لجبل طور سيناء تشظّى منه شظايا فنزلت بمكة ثلاثة حِرَا وثبير وثور, وبالمدينة أحد وعير وورقان) هذا مما قاله عنه نبي الأمة صلوات ربي وسلامه عليه, ولقد قال عنه أيضاً (طارت لعظمة الله ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى, ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحِرَا).
نعم.. تشظى من طور سيناء الذي شرفه الله تعالى بالتجلي عليه, أحدٌ جزء مما تجلى عليه الله -عز وجل-.
هذا الجبل الجرانيتي الأحمر الممتد على طول سبعة أكيال شمال المدينة المنورة، المتدرج اللون بين السواد الإثمدي والخضرة وبعض العروق الزرقاء في تموج بديع للألوان مبهج للنفوس, يمر من جنوبه باتجاه الغرب وادي قناة العظيم الذي يبدأ من حرة واقم وتعرف بدايته شمال شرق المدينة باسم شظاة, الذي سالت مياهه شهراً كاملاً دون انقطاع إثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أثناء خطبته على المنبر في إحدى الجُمع لما سأله أعرابيٌ أن يستغيث لهم الله فاستغاث لهم, فما نزل الرسول المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه عن المنبر حتى ما يرى في السماء قزعة, ثم هطلت الأمطار تتحادر على لحيته الشريفة وظلت على حالها من الهطول ثلاثة أيام متتاليات.
جبل أحد به من التجويفات الطبيعية ما يسمى بالمهاريس الحابسة لماء الأمطار في منظر ساحر يعكس السماء على وجه مائه الصافي, وبه من النباتات ما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حشها إلا يوماً بيوم وقال بأكل بعض منها ولو من عضاهه -الأمر الذي كان يدفع امرأة أنس بن مالك رضي الله عنهما لإرسال صبيانها إلى أحد لجمع بعض حشائشه وعضاه- هو جبل عظيم شرّفه الله تعالى بأن تجري أحداث ملحمةٍ من أعظم الملاحم الإسلامية بسفحه حاملةً اسمه وجاريةً عليه دماء شهدائها.
ولتزداد لحظة التأمل هذه عمقاً وتتدفق روحانيةً وإيماناً, فلا بد من التوقف عند معركة أُحد, يومٌ هو من أشد الأيام على المسلمين عانى بعده نبينا الكريم شهراً إثر سقوطه -صلى الله عليه وسلم- في الحفرة «الزبية» التي حفرها لدابته المشركون وغطوها بالقش فأصيب بجرح في شفته السفلى وكُسرت رباعيته من ضربة عتبة, وشَج وجهه الشريف كلٌ من ابن قمئة وابن شهاب, واستشهد عمه وأخوه من الرضاعة حمزة بن عبدالمطلب رضوان ربي عليه, وسبق الصحابة إلى الجنة سبعون منهم في ذلك اليوم العظيم.
ومما أوجع قلبي على حالي وأرجف روحي على صدق يقيني, ذلك الإيمان القوي الذي حمله المسلمون الأوائل في دواخلهم, فلقد كان أحدهم يشتري ضربة السيف وطعنة الرمح بروحه ويُجري المدامع حسرة على الجهاد إن حُبس عنه ومُنع.
فهذا حمزة -رضي الله عنه- يقاتل بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بسيفين حتى تعثر فوقع فانكشف الدرع عن بطنه فطُعن, فلما فاضت روحه إلى بارئها مثل به وجدع أنفه وأذناه وأخرجت كبده من يمناه, فاعتصر قلب حبيبي صلوات ربي وسلامه عليه من شدة ما رأى، فجاءه جبريل عليه السلام ليخبره مهوناً عليه المُصاب بأن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع «حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله»، فأي صدق إيمانٍ هذا يا عم رسول الله؟!
زينب بنت جحش زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج أخوها عبد الله بن جحش -رضي الله عن كليهما- يوم أحد مقاتلاً بسيفه حتى قطع, لكنه ما تراجع بل صدق الله فصدَّقه ليُصَيِّر عرجون النخلة في يده سيفاً يقاتل به حتى الشهادة فيدفن مع خاله في قبر واحد.
أول شهداء أُحدٍ, قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- لابنه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام لما تورمت عيناه بكاءً على فراق أبيه (لا تبكه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه).
وما لواء رسول الله الأعظم بأقل حظ من غيره, فمصعب بن عمير حامل لواء المهاجرين يوم بدر ويوم أحد يتبعه ابن قمئة ليضرب يده اليمنى فيقطعها, فيحمل اللواء باليسرى مردداً {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} فيقطعها له أيضاً, فما كان منه إلا أن يجثو عليه فيضمه بين عضديه إلى صدره, فيحمل عليه ابن قمئة الثالثة ليقع شهيداً, فيرسل الله تعالى ملكاً على صورته ليقول له الرسول -صلى الله عليه وسلم- (تقدم يا مصعب) فيرد الملك: لست بمصعب, ليعلم حينها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه ملك وأن مصعباً إلى السماء قد صعد.
وإذا رضي الله عن المرء سخر له الهداية, فهذا عمرو بن ثابت بن وقش الذي يأبى الإسلام أنِفاً, يسْلم يوم أحد بصدق اعتقاد وإخلاص يقين, فيقاتل حتى الموت ليُحمل خبره إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيشهد أنه من أهل الجنة وما ركع لله ركعة, فهل من معتبر يا من يركع لله كل يوم وليلة!!
والشيوخ الطاعنون في السن وغيرهم من أهل الأعذار الذين لا شيء عليهم في ترك فريضة الجهاد كأمثال ثابت بن وقش وحسيل بن جبير وعمرو بن الجموح يأبون الأخذ بهذا العذر الإلهي وتطوق أنفسهم لنيل الشهادة كغيرهم من المسلمين فيتجلى حبهم لله ورسوله في صورة من أسمى صور الحب الصادق, فهذا الأول والثاني شيخان ارتفعا في الآطام مع الصبية والنساء فيقول أحدهما للآخر: ما ننتظر؟!
فيخرجا فيقاتلا حتى يقتلا.
والثالث رجل أعرج له من البنون أربعة يريدون حبسه عن القتال فيمتنع, فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم: (ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله -عز وجل- يرزقه الشهادة), فرزقه الله إياها.
وغسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الأوسي يخرج حين يسمع نداء الجهاد جُنباً دون اغتسال فيقاتل حتى يقتل لتغسله الملائكة فيعرف بـ»غسيل الملائكة».
وأما سعد بن الربيع أحد النقباء وشهيد من الشهداء, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باحثاً عنه: (من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع في الأحياء هو أم في الأموات), فنظر أبي بن كعب فوجده جريحاً في القتلى في فيه رمق, فقال له أبي: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات, فقال: أنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له إن سعد بن ربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته وأبلغ قومك مني السلام وقل لهم إن سعد ابن ربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. فما لبث إلا وقد فاضت روحه إلى خالقها.
وذاك رجل يستشهد يوم أحد لا يعرفه إلا أخته بعلامة في بنانه سلِمت في الوقت الذي ما سلم من جسده غير موضعها إثر البضع وثمانين طعنة, رجل قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (إن من عباد الله لو أقسم على الله لأبره) أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما.
وغيرهم 59 شهيداً صدقوا الله الجهاد فصدَقهم الشهادة, حتى جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم, قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا ثمَّ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يكلوا عن الحرب, فقال الله تبارك وتعالى: «أنا أبلغهم», فأنزل على رسوله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً...} الآية.
وبعد ما انقضى القتال وأنهك التعب قلوب المسلمين قبل أجسادهم أتى سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بالماء للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليغسل به جراحه من نقر يقال له المهراس، فزاد نفور دمائه حتى جاءت السيدة فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- وأحرقت قطعة من حصير أخذت رمادها وكمدت به جراح أبيها حتى توقف الدم, ثم صلى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- صلاة الظهر والعصر على يمين شعب الجرار جالساً هو والمسلمين خلفه جلوس في موضع يسمى اليوم مسجد الفسح أو الفسيح.
وعودةً إلى ما قبل المعركة, فقد أوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسين رامياً من أمهر رماة الصحابة على جبل عينين لينضحوا عنه خيل المشركين التي ما صمدت أمام نبلهم ثلاث مرات متتاليات، فعرف هذا الجبل الصغير الواقع جنوب غرب جبل أحد العظيم بجبل الرماة.
أحدٌ جزء مما تجلى الله عليه, شاهد ملحمة بين رسول الله وأعدائه, غُسلت بماء مِهراسه جراح وجه أشرف الخلق قاطبة, وصلى عليه الرسول الكريم وصحابته الميامين صلاتي الظهر والعصر, في سفحه سالت دماء سبعين شهيداً من صحابة رسول الله ومسلمي عهد صدر الإسلام, لا تزال عنده قبورهم حتى اليوم وكأنه يقف شامخاً حارساً عليها ومظللاً لها, من شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحب له ومنه, لا عجب أن يكون على ركن باب الجنة.
فليت شعري ماذا لو كنت من حَصاهُ أأكون معه في الجنة على بابها؟